دخول دول الخليج سباق الرقائق الإلكترونيّة.. الأسباب والنتائج

تحول خلال السنوات الماضية، إنتاج الرقائق الإلكترونيّة إلى أحد ميادين الحروب التجاريّة العالميّة، وخصوصًا بين الولايات المتحدة الأميركيّة والصين.

وتُعتبر هذه الرقائق، بمختلف درجات تطوّرها، عصب الصناعات الإلكترونيّة، لكونها تقوم بتنظيم تدفّق الإشارات الكهربائيّة وتحرّكات الإلكترونات، وفق البرمجة المحدّدة لكلّ منتج.

وعلى هذا النحو، بات توفّر هذه الرقائق يحدّد إمكانيّة تقدّم أيّ صناعة ذكيّة، من الهواتف الحديثة إلى ألعاب الأطفال والحواسيب، وصولًا إلى السيّارات والطائرات والصواريخ الموجّهة.

ومع تطوّر تقنيّات الذكاء الاصطناعي، بات أقطاب الصناعة في مختلف أنحاء العالم أكثر إدراكًا لأهميّة النماذج المتطوّرة من الرقائق الإلكترونيّة.

وقالت مؤسسة “فنك” الأوروبية إن دول الخليج العربيّة لم تكن بعيدة عن هذا السباق العالمي. بل على العكس تمامًا، أدركت هذه الدول أن تطوير هذه الصناعة يتكامل مع أهداف تنويع اقتصاداتها، وتقليص اعتمادها على إيرادات النفط والغاز.

كما أدركت أن تطوير هذه الصناعة سيسمح بخلق سلاسل التوريد، الكفيلة بتطوير جميع الصناعات الإلكترونيّة والتكنولوجيّة الأخرى.

أمّا الأهم، فهو أنّ دول الخليج تمتلك الرساميل المطلوبة لتطوير هذا القطاع، الذي يتميّز بحاجتهِ لاستثماراتٍ صناعيّة ضخمة، ولبنية تحتيّة متقدّمة جدًا.

ومن المعلوم أنّ تنامي حاجة الأسواق العالميّة لهذه المنتجات، مثّل عاملًا مغريًا شجّع دول الخليج العربيّة على دخول هذه الصناعة المُكلفة.

أسباب السباق العالمي

تُعتبر الرقائق الإلكترونيّة، وخصوصًا النماذج المتطوّرة والحديثة منها، سلعة نادرة في الأسواق العالميّة، بمعنى ارتفاع الطلب عليها مقابل محدوديّة العرض.

ولهذا السبب، تتمحور الحروب التجاريّة القائمة اليوم حول سعي الدول الصناعيّة للهيمنة على سلاسل توريد هذه السلعة، إمّا عبر تطوير إنتاجها الخاص منها، أو عبر فرض بعض القيود التي تمنع الطرف الآخر من الاستحواذ عليها، كما يجري الآن بين الولايات المتحدة والصين.

وفي الكثير من الأحيان، استهدفت هذه الحروب التجاريّة السيطرة على المواد الأوليّة الشّحيحة، التي تدخل في صناعة الرقائق الإلكترونيّة، أو الميل لإكتناز مخزون ضخم من هذه المواد.

ولفهم سبب ندرة الرقائق الإلكترونيّة في الأسواق العالميّة، من الجدير ذكره أنّ هذه الصناعة تعتمدُ على مجموعة من المواد الأوليّة النادرة والمحدودة الإنتاج، مثل التنغستن والتانتالوم والكوبالت والغاليوم. وهذا ما يجعل إنتاج الرقائق الإلكترونيّة ضيقًا، بقدر محدوديّة هذه المواد الأوليّة.

في غضون ذلك، يحدُ من إنتاج الرقائق تكلفة التصنيع الضخمة، نظرًا لاعتماد سلاسل إنتاج هذه السلعة على تقنيّات ومعدات شديدة التطوّر والكلفة. وهذا ما يحصر قدرة الإنتاج بمجموعة صغيرة جدًا من الشركات العالميّة، التي تمتلك في الوقت عينيه: الخبرة والتقنيّة المتطوّرة والرساميل الضخمة.

وفي مقابل محدوديّة القدرة على الإنتاج، شهدت الأسواق العالميّة تناميًا مضطردًا في الطلب على الرقائق الإلكترونيّة المتقدمة، بالتوازي مع تقدّم الصناعات الذكيّة، وتزايد الطلب على المنتجات الإلكترونيّة.

وبهذا الشكلِ، بات صراع الدول الصناعيّة على سلاسل توريد الرقائق الإلكترونيّة، يترجم صراعها على تزعّم إنتاج السلع الإلكترونيّة والذكيّة بمختلف أنواعها. بل يمكن القول، ومن دون أدنى حد من المبالغة، أنّ السّباق على الرقائق الإلكترونيّة هو فعليًا سباق على مستقبل الاقتصاد العالمي.

أشكال السباق الصناعي والحرب التجاريّة

خلال العقود الماضية، تراجعت حصّة الولايات المتحدة الأميركيّة في صناعة الرقائق الإلكترونيّة من 37% عام 1990، إلى 12% فقط حاليًا. وجرى هذا التراجع الكبير لمصلحة دول مثل تايوان التي باتت تهيمن على 63% من هذه الصناعة العالميّة، وكوريا الجنوبيّة التي ارتفعت حصّتها إلى 18%.

وعلى مرّ العقود الأربعة الماضية، كانت هذه التحوّلات تجري بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج في الدول الغربيّة، مقارنة بكلفتها في دول جنوب شرق آسيا.

بدأت الدول الغربيّة، وخصوصًا الولايات المتحدة، بالالتفات إلى خطر هذه التطوّرات على مصالحها الاستراتيجيّة عام 2020، بعدما شهد العالم أزمة نقص شديد في إنتاج الرقائق الإلكترونيّة مقارنة بالطلب.

إذ منذ ذلك الوقت، عادت الصين لإثارة النزاعات الإقليميّة حول مصير تايوان، التي تتربّع حاليًا على عرش إنتاج الرقائق الإلكترونيّة.

ومع تزايد الحديث عن اجتياح صيني محتمل لجزيرة تايوان خلال السّنوات القليلة المقبلة، بدأت الولايات المتحدة تتحوّط لأثر تطوّر من هذا النوع، على سلاسل توريد الرقائق الإلكترونيّة. مع الإشارة إلى أنّ اهتمام الصين بهذه الجزيرة ينبع أساسًا من دورها الريادي في مجال صناعة الرقائق الإلكترونيّة، من خلال شركة TSMC الشهيرة.

أبرز معالم الحرب التجاريّة على سوق الرقائق الإلكترونيّة برزت مع القيود الأميركيّة على شركة هواوي الصّينيّة عام 2020، والتي استهدفت الحد من استحواذ هواوي على الرقائق الإلكترونيّة المتطوّرة.

وإلى جانب هذه القيود، قدّمت الولايات المتحدة تسهيلات ضريبيّة وائتمانيّة ضخمة، لمحاولة استقطاب الشركات المتخصّصة في صناعة الرقائق الإلكترونيّة.

وبالفعل، وبناءً على هذه الحوافز، تمكّنت إدارة الرئيس بايدن من إقناع شركة TSMC التايوانيّة بافتتاح مصانع جديدة لها في ولاية أريزونا الأميركيّة، لإبعاد بعض سلاسل توريد الشركة عن قبضة الصين، وعن أطماعها في جزيرة تايوان.

وللأسباب عينيها، قامت العديد من الدول الصناعيّة الأخرى باجتذاب جزء من فروع ومصانع وسلاسل توريد شركة TSMC التايوانيّة، عبر تقديم أنواع مختلفة من الحوافز والتقديمات والتسهيلات.

ومن هذه الدول على سبيل المثال اليابان، التي تعهّدت في شباط/فبراير 2024 بتحمّل 40% من كلفة إنشاء مصنع TSMC الجديد، في بلدة كيكويو اليابانيّة.

أمّا ألمانيا، فاحتفت في آب/أغسطس 2023 باستقطاب أوّل مصنع في أوروبا لشركة TSMC، بعدما خصص الاتحاد الأوروبي 43 مليار يورو من الاستثمارات العامّة، لدعم هذا القطاع.

في مقابل هذه الخطوات، كانت الصين تزيد من الضغط العسكري والميداني المحيط بجزيرة تايوان نفسها. وفي الوقت عينيه، صعّدت الصين الحرب التجاريّة عبر فرض قيود على تصدير مواد الجرمانيوم والجاليوم، التي تدخل كمواد أوليّة لا يمكن الاستغناء عنها، في صناعة الرقائق الإلكترونيّة.

مع العلم أن الصين تستحوذ وحدها على أكثر من 60% من إنتاج الجرمانيوم في العالم، و80% من الغاليوم. وبالتوازي، دخلت الشركات الصينيّة في سباق عالمي لشراء واكتناز الرقائق الإلكترونيّة التي لم تخضع إلى القيود الأميركيّة بعد، أو لشراء المعدات التي تسمح بصناعة الرقائق الإلكترونيّة.

في سياق هذه الحرب التجاريّة، يظهر العديد من اللاعبين المؤثرين حول أنحاء العالم. من هؤلاء مثلًا، شركة ASML الهولندية التي تهيمن بشكل شبه مطلق على صناعة المعدات المستخدمة في إنتاج الرقائق الإلكترونيّة الأكثر تقدمًا.

كما تهيمن شركات أميركيّة مثل نفيديا وإنتل وكوالكون على مجال تصميم الرقائق الإلكترونيّة، قبل إنتاجها. وهكذا، وبفعل إلتزام جميع الشركات هذه الغربيّة بالقيود الأميركيّة، فقد واجهت الصين صعوبات في تطوير دقّة ونوعيّة الرقائق الإلكترونيّة التي تقوم بتصنيعها.

السباق على صناعة الرقائق الإلكترونيّة

مع اشتداد الطلب العالمي على الرقائق الإلكترونيّة، وتسابق الدول الصناعيّة على ملء الفجوة بين العرض والطلب، وجدت دول الخليج العربيّة الفرصة سانحة أمام دخولها هذا السباق.

دخلت المملكة العربيّة السعوديّة هذا السباق جديًا في مارس/آذار 2022، من خلال إطلاق البرنامج السعودي لأشباه الموصلات، والذي مثّل أوّل برنامج من نوعه على مستوى منطقة الشرق الأوسط.

إذ بدأ البرنامج منذ ذلك الوقت بمواءمة البرامج الأكاديميّة السعوديّة، مع الفرص الاستثماريّة المتاحة على مستوى صناعة الرقائق الإلكترونيّة في المملكة، لتهيئة كادر بشري يملك المهارات التي تحتاجها هذه الصناعة.

وبعد أقل من عام على إطلاق البرنامج، دخلت المملكة في شراكةٍ مع شركةِ الصين للطاقة الكهربائيّة والمعدات والتقنيّة، لإنشاء مركز متكامل لتصميم وصناعة الرقائق الإلكترونيّة.

وضمن إطار المشاريع التي تخطط لها المملكة في مدينة نيوم، دخلت السعوديّة في مفاوضات مع شركة فوكسكون التايوانيّة، لإنشاء مصنع بقيمة 9 مليار دولار، بهدف إنتاج الرقائق الإلكترونيّة ومكونات السيّارات الكهربائيّة.

وفي مطلع العام 2024، أعلن الصندوق السيادي السعوديّة اتجاهه لضخ “استثمارات كبيرة” في صناعة الرقائق الإلكترونيّة، بهدف إستكمال سلاسل التوريد التي تحتاجها الصناعات الإلكترونيّة والتكنولوجيّة.

وهذا ما يتكامل مع الخطط العامّة السعوديّة، التي استهدفت منذ العام 2021 اجتذاب مراكز وفروع كبرى شركات التكنولوجيا والإلكترونيّات والبرمجة.

على النحو عينيه، دخلت الإمارات العربيّة المتحدة هذا المجال من بوّابة تحضير الكادر البشري الكفوء، عبر برنامج خاص أعدته جامعة خليفة في أبو ظبي.

وبناءً على هذه التجربة، قامت شركة Next Orbit Ventures الإماراتية وشركة Tower Semiconductor الإسرائيلية بإطلاق مشروع جديد لاستثمار 3 مليار دولار، في مجال تصنيع الرقائق الإلكترونيّة.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن شركة مبادلة الإماراتيّة كانت قد أعلنت نيّتها في استثمار نحو 4 مليار دولار في صناعة الرقائق الإلكترونيّة، بالاستفادة من امتلاكها لشركة “غلوبال فاوندريز”، التي تُعتبر ثالث أكبر شركة لتصنيع الرقائق الإلكترونيّة في العالم.

من ناحيتها، دخلت قطر هذا السباق عبر استثمارات صناعيّة مشتركة مع تركيا، بالاستفادة من توفّر سلاسل توريد الصناعات التكنولوجيّة والإلكترونيّة في السوق التركي.

وفي حزيران/يوليو 2023، أعلن جهاز قطر للاستثمار –الصندوق السيادي القطري- عن استحواذه على 5% من أسهم شركة “كوكوساي إليكتريك” اليابانية، المُنتجة لآلات تصنيع الرقائق الإلكترونية. ومن المعلوم أن قطر تحاول، عبر هذا الاستحواذ، دخول هذا السوق والتمكّن من تأمين آليّات صناعة الرقائق شديدة التطوّر في المستقبل.

المميزات التنافسيّة في منطقة الخليج

من الواضح أن دول الخليج العربيّة تملك مجموعة من المميّزات التنافسيّة، التي تحاول استثمارها في المنافسة في هذا المجال. فالصناديق الاستثماريّة الخليجيّة، راكمت خلال السنوات الماضيّة فوائد ماليّة ضخمة، وهو ما يمثّل المصدر الأساس للرساميل التي يحتاجها النمو في هذا القطاع.

ومن هذه الزاوية بالذات، يمكن فهم الأدوار التي تلعبها حاليًا الصناديق السياديّة في السعوديّة وقطر والإمارات، في تمويل المشاريع الصناعيّة المرتبطة بالرقائق الإلكترونيّة.

في الوقت عينيه، تتسابق دول الخليج العربيّة، وخصوصًا السعوديّة والإمارات، على اجتذاب المراكز الإقليميّة والصناعيّة، لكبرى الشركات التكنولوجيّة والإلكترونيّة العالميّة. كما تتسابق دول الخليج على اجتذاب الاستثمارات الأجنبيّة، في هذه القطاعات خصوصًا.

وهكذا، تمتلك هذه الدول أسواقًا تكنولوجيّة وازنة، تسمح لها بتصريف إنتاج الرقائق الإلكترونيّة المرتقب. كما ستتمكّن دول الخليج في المستقبل من إكمال سلاسل التوريد التي يحتاجها النشاط الصناعي التكنولوجي، من خلال إنتاجها المحلّي من الرقائق الإلكترونيّة.

وعلى المستوى السياسي، لا تزال دول الخليج توازن ما بين علاقاتها الاقتصاديّة والاستثماريّة الجيّدة مع الصين من جهة، وعلاقاتها الاستراتيجيّة الإيجابيّة مع الدول الغربيّة والولايات المتحدة والهند من جهة أخرى.

وهذا ما سمح لدول الخليج بعقد شراكات استثماريّة إيجابيّة مع الطرفين، في مجال تطوير صناعة الرقائق الإلكترونيّة.

أمّا في المستقبل، فسيكون بإمكان دول الخليج العربيّة الاستفادة من هذه العلاقات لمواءمة نوعيّة الرقائق الإلكترونيّة التي تصنّعها، مع حاجات الشركات الصّناعيّة في الغرب والصين والهند، وفقًا لشراكات وتفاهمات طويلة الأمد.

في النتيجة، يمكن القول أن صناعة الرقائق الإلكترونيّة يمكن أن تمثّل –بالنسبة لدول الخليج العربيّة- رهانًا للتحوّل نحو الاقتصاد المنتج والصناعي، تمامًا كما تستهدف جميع الخطط والرؤى الاقتصاديّة الاستراتيجيّة الخليجيّة.

وهذه الصناعة، يمكن أن تتحوّل بدورها إلى ركيزة لدعم القطاعات التكنولوجيّة والصناعيّة الأخرى، كما يمكن أن تجعل الدول الخليجيّة رقمًا صعبًا على مستوى الاقتصاد العالمي.

ومن المؤكد أن هذه الطموحات لن تتعارض مع طموحات الشركاء الغربيين، الذين يبحثون أصلًا عن سبل زيادة إنتاج الرقائق الإلكترونيّة، وتنويع مصادرها، خوفًا من أي سيطرة صينيّة محتملة على جزيرة تايوان.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.