واشنطن بوست: وقف إطلاق النار في غزة يعزّز صورة قطر كوسيط عالمي

بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، خرجت قطر من قلب المعركة الدبلوماسية وقد عزّزت مكانتها كوسيط لا غنى عنه في الأزمات الدولية بحسب ما أبرزت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.

وقالت الصحيفة إنه بينما انشغلت القوى الكبرى في إدارة خلافاتها ومصالحها، كانت الدوحة تمسك بخيوط تفاوضٍ شديدة الحساسية، وتقدّم نفسها نموذجًا فريدًا في فن التوازن بين الأطراف المتصارعة.

دبلوماسية براغماتية في مواجهة العاصفة

الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف الدوحة في سبتمبر الماضي كان يمكن أن يدفعها إلى التراجع عن نهج الانخراط، غير أن القيادة القطرية قرأت الموقف على نحو مغاير: تعزيز الوساطة بدل الانسحاب منها.

وقد رأت قطر أن أفضل رد على العدوان هو ترسيخ دورها كقناة تواصل لا يمكن تجاوزها، وأن نجاح الهدنة في غزة هو الدليل الأوضح على صواب سياستها الخارجية القائمة على الحوار والانفتاح.

منذ ذلك الحين، تحركت الدوحة بثقةٍ متزايدة على جبهات عدة، معتبرة أن ما تحقق في غزة ليس نهاية دورها بل بدايته. فقد أثبتت التجربة أن أية تسوية إقليمية أو إنسانية لا يمكن أن تتم دون المرور بالعاصمة القطرية، التي باتت أشبه بـ«غرفة عمليات» دبلوماسية تتقاطع فيها الملفات من أوكرانيا إلى كابول ومن فنزويلا إلى الكونغو.

وساطات متعددة وملفات شائكة

تتابع قطر اليوم ما لا يقل عن تسع مبادرات وساطة في مناطق مختلفة من العالم. في إفريقيا، ترعى محادثات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا لتخفيف التوتر على الحدود الشرقية.

وفي آسيا، تدير اتصالات مع حركة طالبان بشأن الأسرى والمعتقلين الغربيين، وتعمل على ضمان استمرار قنوات الحوار بين باكستان وطالبان الأفغانية بعد اشتباكات حدودية متكررة.

وفي القارة الأمريكية، تتحرك قطر في مساحةٍ جديدة من التأثير، إذ تعمل على تيسير الحوار بين واشنطن وكراكاس بهدف تخفيف التوتر وإعادة تبادل الأسرى بين البلدين. وقد ساعدت بالفعل في تنفيذ عملية تبادل محدودة بين معتقلين أميركيين وفنزويليين بعد مفاوضات معقدة استمرت لأشهر.

اختبار غزة والضغط الأميركي

أثبتت الحرب على غزة أن الدوحة أصبحت مركز ثقل في أي تسوية تتعلق بالقضية الفلسطينية. فقد حافظت على علاقة مع حماس بصفتها قناة تفاوض أساسية، وفي الوقت ذاته واصلت تنسيقها الأمني والدبلوماسي مع واشنطن وتل أبيب.

وجعلت هذه الصيغة الحساسة قطر في مرمى الانتقادات من جهاتٍ ترى أنها «تلعب على الحبلين»، لكنها من وجهة نظرها تحافظ على التوازن الذي يضمن استمرار التواصل حين ينقطع بين الآخرين.

ورغم الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتكررة للضغط على حماس، تمسكت الدوحة بحدود دورها كوسيط، معتبرة أن وظيفتها الأساسية هي فتح الأبواب لا إغلاقها.

وقد وصف مسؤولون غربيون المرحلة التي سبقت وقف إطلاق النار بأنها «أصعب اختبارٍ سياسي مرت به قطر منذ حصار عام 2017»، لكن اجتياز هذا الاختبار عزز الثقة الدولية بقدرتها على إدارة الملفات المعقدة.

تعزيز العلاقة مع واشنطن وتوسيع النفوذ

خلال العامين الماضيين، بنت قطر شراكة استراتيجية أعمق مع الولايات المتحدة، تشمل التعاون العسكري والاستخباري. ومن خلال تلك الشراكة استطاعت أن تكون طرفًا محوريًا في إدارة أزمات إقليمية متتالية.

كما أن استضافة المفاوضين الإسرائيليين والقطريين في لقاءات غير معلنة في الدوحة أسهمت في تقريب وجهات النظر حول ملفات إنسانية حساسة، خصوصًا إطلاق الرهائن.

ولم يقتصر الإنجاز على وقف النار فحسب، بل امتد إلى تعزيز صورة قطر كوسيط قادر على جمع المتناقضات تحت سقفٍ واحد. ومع ذلك، لا تزال القيادة القطرية تواجه معادلة دقيقة بين المحافظة على دورها الإقليمي المستقل وتجنّب أن تُستَخدم كأداة في حسابات الآخرين.

الدوحة في قلب النظام الدولي الجديد

في ظل تراجع الثقة بالمنظمات الدولية وتباطؤ القوى الكبرى في احتواء النزاعات، تملأ قطر فراغًا متزايدًا في الدبلوماسية العالمية. فهي دولة صغيرة جغرافيًا لكنها تمتلك شبكة تحالفات تمتد من واشنطن إلى موسكو ومن أنقرة إلى كراكاس. هذا التوازن منحها مكانة فريدة كدولة “تُسمَع” من الجميع حتى حين يختلفون.

وقد تحولت الدوحة من لاعب إقليمي إلى وسيطٍ عالمي يُستدعى حين تتعثر القنوات الرسمية. ومع أن وقف إطلاق النار في غزة لا يزال هشًا، إلا أن نجاحه النسبي أعطى قطر دفعة قوية لترسيخ نهجها القائم على “الانخراط لا الانعزال”، لتصبح نموذجًا للدبلوماسية الصغيرة ذات الأثر الكبير في عالمٍ مضطرب يبحث عن وسيطٍ موثوق يمكنه التحدث مع الجميع.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.