ما بعد هدنة غزة: اختبار زعامة الخليج بين التطبيع والإعمار

أثار اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في شرم الشيخ في 9 سبتمبر/أيلول 2025 تحولاً تكتيكياً في مسار الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، لكنه فتح بدوره ساحة صراع جديدة بين دول الخليج حول من يسود مشهد ما بعد الحرب.

إذ بين التطبيع السياسي وقيادة ملف إعادة الإعمار يتصاعد التنافس بعد عامين من دمار هائل في غزة، حيث باتت عواصم المنطقة أمام اختبار حقيقي لزعاماتها الإقليمية، لا سيما السعودية والإمارات وقطر، كلٌ وفق أوراق قوته ودوره.

وقال مركز البيت الخليجي للدراسات والنشر إن اتفاق شرم الشيخ الذي رعته الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا، وقَبِلته في النهاية واشنطن، أنهى دوامة عنف أزهقت آلاف المدنيين ودمّرت البنية التحتية لقطاع غزة.

لكن المراقبين يشددون على أن الهدنة ليست ضمانة لسلام دائم، بل بداية لمرحلة تفاوضية جديدة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية مع الملفات الوطنية: تطبيع العلاقات، الحل السياسي للقضية الفلسطينية، ومن ثم إعادة الإعمار.

قطر: وسطية الوسيط وضرورة النجاح

تبدو الدوحة الرابح الأوضح من ملف الوساطة؛ فقد لعبت دور الوسيط بمرونة طوال جولات التفاوض، وتحمّلت ضغوطاً سياسية وأمنية كبيرة، بما في ذلك استهداف إسرائيلي لقيادات في الدوحة أودى بحياة رجل أمن قطري أثناء مفاوضات سبتمبر.

وقد تعهدت واشنطن بعد ذلك بعدم تكرار مثل تلك العمليات، مع تأمينٍ أميركي لقطر بموجب وعد رئاسي. لذا تقع على الدوحة مسؤولية ثقيلة لضمان تطبيق اتفاق التهدئة واستدامته، وهو ما يجعلها لاعباً مركزياً في آليات تنفيذ بنود وقف النار والتهيئة لإعادة الإعمار.

السعودية: زعامة تقليدية وموقف مشروط

الرياض، رغم عدم حضور ولي عهدها مراسم التوقيع، رحبت بالاتفاق مؤكدة على ضرورة انسحاب إسرائيلي كامل وبدء عملية سياسية حقيقية تقود لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.

تاريخياً تتمتع السعودية برصيد سياسي وديني يؤهلها للقيادة، وهي تربط أي خطوة تطبيعية مع إسرائيل بتحقُّق مكاسب سياسية جوهرية للفلسطينيين.

هذا الموقف يجعل الرياض أقل قابلية للانزلاق نحو اعتراف أحادي بإسرائيل قبل ضمانات ملموسة لحل الدولتين — شرطٌ حدده ممثلوها مراراً.
وفيما تحافظ الرياض على حضورها في أنشطة التنسيق الأمني التي ترعاها واشنطن، فإنها تصرّ على أن التطبيع العام يكون مجمّعاً ومشروطاً بتنازلات إسرائيلية حقيقية.

الإمارات: تطبيع معلن وطموح إعمار سريع

أبوظبي تتحرك بخطى مختلفة: لديها اتفاق تطبيع مفتوح مع إسرائيل منذ اتفاقيات أبراهام وتطوير علاقات أمنية واقتصادية مكثفة مع تل أبيب.

وتسعى الإمارات إلى استغلال فرصة إعادة الإعمار لتكريس دورها الإقليمي كقوة تنفيذية في مشاريع البنية التحتية والقطاع الخاص. موقفها يعكس سياسة الحدّ من أي دور لحركات الإسلام السياسي في الحكم، ما يجعلها من الأصوات الأكثر تشدداً بشأن دور حماس في مستقبل غزة.

ومع ذلك، يتقاطع طموح الإمارات مع تحفظات سعودية؛ فالتنافس بين الرياض وأبوظبي على دور القيادة الإقليمية يظل محركاً أساسياً للمواقف المتباينة.

استراتيجية واشنطن: تطبيع مقابل إعادة إعمار؟

الولايات المتحدة تدفع بخطة من مراحل متعددة تبدأ بوقف إطلاق النار، مروراً بالمساعدات الإنسانية، ثم إعادة الإعمار، مع إمعان في بناء “مجلس سلام” دولي ودور خليجي محوري في التمويل.

ورأت إدارة ترامب في اتفاق التهدئة فرصة لإعادة إثارة مسار التطبيع بقوة، لكنها تواجه تردداً سعودياً وقلقاً من تبعات أي اعتراف سعودي قبلي على مكانة الرياض لدى عموم الأمة الإسلامية.

والرهان الأمريكي واضح: الخليج ينبغي أن يكون المحرك المالي لإعادة إعمار غزة. لكن دولاً خليجية مترددة ترى أن مسؤولية الإعمار تقع أولاً على إسرائيل باعتبارها الجهة التي شنت الحرب وتسببت بالدمار.

وتقدم الإمارات مقترحات ربطها بشروط أمنية، أبرزها نزع سلاح حماس وتسليم إدارة مؤقتة دولية أو إقليمية لإدارة القطاع، بينما تشترط السعودية خطوات سياسية ملموسة تُسبق أي مسار تطبيعي واسع.

مشهد غير محسوم

التباينات بين الرياض وأبوظبي وقطر ليست مجرد خلافات تكتيكية؛ إنها تتقاطع مع صراع على الزعامة والنفوذ في العالم العربي والإسلامي.

ونجاح أي مسار — تطبيعي كان أم إعمارياً — مرهون بتفاهم سعودي ــ أميركي ــ خليجي يضم ضمانات للفلسطينيين وتوزيع أدوار واضحاً بين العواصم. وبدون ذلك، ستبقى المبادرات عرضة للتآكل أمام ضغوط الشارع الفلسطيني والمواقف الدولية.

وما بعد هدنة غزة ليس لحظات استرخاء بل امتحان لزعامة الخليج. السعودية ترجح ثقلها السياسي وتضع شروطها؛ الإمارات تعرض خبرتها التنفيذية والتطبيعية؛ وقطر تراهن على القدرة الوسيطة لضمان السلام.

وستتحدد النهاية العملية لهذا الاختبار بمدى قدرة هذه القوى على تجاوز حسابات النفوذ الوطنية لصالح استراتيجية مشتركة تضمن سلاماً قابلاً للاستمرار وإعادة إعمار فعّالة تحفظ كرامة الفلسطينيين وتستعيد توازن المنطقة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.