أعاد إطلاق سراح حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، بكفالة قياسية بلغت 14 مليون دولار الجدل حول فعالية القضاء اللبناني ومخاطر الإفلات من العقاب في واحدة من أبرز القضايا المالية في تاريخ البلاد الحديث.
وجاء الإفراج بعد 13 شهراً على توقيفه احتياطياً على خلفية تحقيقات تتصل باختلاس مزعوم بقيمة 44 مليون دولار من البنك المركزي ضمن ما يُعرف بـ«فضيحة أوبتيموم»، بينما لا تزال ملاحقاته مستمرة في الخارج بتهم غسل أموال وحيازة أصول فاخرة خارجية.
وقد وُضع سلامة قيد الحبس الاحتياطي في سبتمبر/أيلول 2024 بانتظار نتائج التحقيق الذي بدأ العام الماضي، لكن بطء الإجراءات داخلياً أثار أسئلة حادة حول القدرة على الوصول إلى المحاكمة.
ويرى المحامي فؤاد الدبس أنّ التباطؤ «منهجي» في القضايا الكبرى، معتبراً أن تأخير العدالة يوازي حرماناً منها. وتؤكد مصادر قانونية أنّ إحالة الملف إلى محكمة مختصة لم تتم بعد، ما يطيل أمد مرحلة ما قبل المحاكمة رغم حساسية القضية وحجمها.
كفالة غير مسبوقة… وأسئلة أصعب
أثار مبلغ الكفالة القياسي علامات استفهام إضافية، خصوصاً أن حسابات سلامة مجمّدة بموجب عقوبات بريطانية وأميركية وكندية، وأن معظم أصوله في أوروبا قيد التجميد.
يسأل منتقدون: كيف دُفعت الكفالة؟ وهل أُتيحت سيولة نقدية عبر طرف ثالث؟ يحذّر الدبس من أن ضخ مبالغ كبيرة نقداً «في ظل قيود مصرفية تحرم اللبناني العادي من سحب حتى بضعة آلاف دولارات» يزيد مخاطر غسل الأموال ويقوّض الثقة بالنظام المالي.
كما أن اختيار صندوق القضاة المشترك مكاناً لإيداع الكفالة أشعل سجالاً سياسياً وقانونياً. النائب ملحم خلف رأى أنّ الصندوق «لا يملك صلاحية استلام أموال جزائية عامة»، ما يثير مخاوف حول وجهة الأموال وآليات إدارتها.
من جهته، يوضح القاضي السابق جان طنوس أنّ الإيداع مرتبط «باعتبارات تخزينية لوجستية» لعدم توفر خزائن كافية في قصر العدل، مؤكداً أن الأموال تبقى ملكاً لسلامة إلى حين صدور حكم نهائي بالمصادرة، إن حصلت.
قانون الإثراء غير المشروع
يشير طنوس إلى أنّ قانون الإثراء غير المشروع يقلب عبء الإثبات في بعض الحالات: على الموظف العام إثبات شرعية أمواله ومطابقتها لموارده. وبذلك، فإن تبرير مصادر ثروة سلامة — وهو موظف عام شغل منصباً حساساً لعقود — يصبح محورياً لأي حكم قضائي نهائي، داخلياً وخارجياً.
وفي مقابل الجمود المحلي، تحرز التحقيقات في أوروبا تقدماً: مذكرة توقيف فرنسية، وإجراءات مصادرة لمئات الملايين في عدة دول. كما يواجه سلامة حظر سفر داخلياً ونشرة إنتربول حمراء تعرّضه للتوقيف المؤقت خارج لبنان.
ويرى مراقبون أن القيود هذه تحميه فعلياً داخل البلاد من ملاحقات خارجية، ما يُفاقم الانطباع بأنّ المنظومة المحلية تسعى إلى تحصينه أكثر من محاسبته.
من “ساحر مالي” إلى متهم بارز
انهيار الاقتصاد اللبناني كشف جانباً مظلماً من الهندسات المالية التي كانت تُسوّق كحلول ابتكارية.
ويصف خبراء الانهيار بأنه «مخطط بونزي على مستوى دولة» استفادت منه شبكات نافذة سنوات طويلة عبر ترتيبات معقّدة. ورغم نفي سلامة المتكرر لأي مخالفات، فإنّ التناقض بين حجـم ثروته المعلنة ووظيفته كموظف عام يبقى في صلب الأسئلة القضائية.
وتقول وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم إن المشكلة ليست في إطلاق سراحه بحد ذاته — إذ قرينة البراءة قائمة — بل في عدم السير بالمحاكمة: لم تُحدَّد محكمة مختصة ولم تبدأ جلسات للنظر في الأدلة، «سواء لإدانته أو لتبرئته». ويذهب ناشطون إلى أبعد من ذلك: كل يوم تأخير يهدر فرصة لترميم الثقة المنهارة بين اللبنانيين ومؤسسات دولتهم.
ويبقى المفتاح في استكمال التحقيقات داخلياً بوتيرة مهنية وسريعة، مع تنسيق قضائي حقيقي مع السلطات الأوروبية لضمان تبادل الأدلة وتتبع الأصول. من دون ذلك، ستتحوّل الكفالة القياسية إلى رمز لخلل أعمق: دولة تُشدد القيود على صغار المودعين، لكنها تتهاون في ملفات الفساد الكبرى.
الاختبار المقبل واضح: إحالة الملف إلى محكمة مختصة، ضبط مسار المحاكمة ضمن جداول زمنية شفافة، وتقديم بيانات رسمية دورية للرأي العام. بين العدالة المتأخرة والعدالة المنجزة، يتحدد — إلى حد كبير — مستقبل المحاسبة في لبنان.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=72864