في قلب الصحراء السعودية، حيث تقف آثار النبطيين كشاهد على حضارات قديمة، تتغير ملامح العُلا بسرعة خاطفة. فبدلًا من أن تكون مجرد موقع أثري صامت مدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، أصبحت العُلا اليوم وجهة فاخرة لهواة المغامرات الرياضية والترفيه النشط، تستقطب زوارًا من أنحاء العالم.
في أغسطس المقبل، سيقفز مئات العدائين إلى ساحة “لهيب الصحراء”، وهي فعالية رياضية قاسية تقام وسط حرارة تتجاوز الأربعين درجة مئوية. الجري ليس عاديًا هنا، بل يتم عبر مسارات وعرة تمرّ بين الجروف الصخرية الضخمة، وقبور الأنباط المنحوتة في الجبال، حيث يتداخل العرق مع التاريخ، وتتحول الرياضة إلى تجربة روحية تتحدى حدود الجسد والعقل.
رياضات ثلاثية على الطريقة السعودية
ليست العُلا فقط وجهة للعدائين. فالمغامرون الباحثون عن تجارب أكثر تنوعًا يمكنهم الانخراط في “الثلاثي الرياضي الثابت” — فعالية مبتكرة تشمل التجديف على أجهزة رياضية متطورة، وركوب الدراجات الثابتة، والسباحة في برك الفنادق الفاخرة.
ورغم أن هذه الأنشطة تُقام في منتجعات مغلقة ومجهزة، إلا أنها تكتسب بعدًا جديدًا حين تقع في حضن الصحراء، محاطة بالجبال والآثار. يمكن للمشاركين أن يعيشوا مغامرة رياضية دون أن يبتعدوا كثيرًا عن خدمة الغرف الفندقية أو مرافق الاستجمام الصحية.
الرقص واليوغا وسط الرمال
في مشهد غير مألوف على الأراضي السعودية قبل سنوات قليلة، يُمكن لزائر العُلا أن يحضر حفلة راقصة عند غروب الشمس في الهواء الطلق، أو أن ينضم إلى جلسة يوغا عند الفجر بين الكثبان الرملية. هذا المزج بين النشاط البدني والروحانية المعاصرة يقدّم بُعدًا جديدًا لمفهوم “السياحة النشطة”، ويعكس تحولًا كبيرًا في الرؤية الثقافية للمملكة.
وقد باتت العُلا تجذب فئات متنوعة من الزوار: من محبي المغامرات والمتسلقين، إلى مؤثري إنستغرام الباحثين عن خلفيات خلابة، إلى عشاق الفنون الذين يحضرون فعاليات مهرجان “شتاء طنطورة” أو معارض النحت المفتوحة في الصحراء.
من مدينة نائمة إلى قلب الرؤية السياحية
قبل خمس سنوات فقط، كانت العُلا مدينة نائمة في الشمال الغربي للمملكة، يُعرف عنها القليل خارج الأوساط الأثرية. لكن مع إطلاق رؤية السعودية 2030، تحوّلت إلى واحدة من أبرز مشاريع الاستثمار الثقافي والسياحي. تأسست “الهيئة الملكية لمحافظة العُلا” لتقود هذا التحول، وبدأت بتنفيذ مشاريع ضخمة لإعادة إحياء التراث، وربطه بمفاهيم سياحية حديثة.
هذا النموذج الجديد لا يُركّز فقط على المعابد والمقابر الحجرية، بل يُدمج بين أصالة المكان ومتطلبات السياحة العصرية: مطاعم عالمية، منتجعات فاخرة، أنشطة رياضية، ومهرجانات موسيقية. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يبقى في تحقيق هذا التوازن دون المساس بالهوية الثقافية الفريدة للموقع.
سياحة نشطة… واستثمار مستدام
الاهتمام المتزايد بالعُلا لا يقتصر على السياح فقط. فالمستثمرون الإقليميون والعالميون بدأوا يضخون أموالهم في مشاريع البنية التحتية، والفنادق، والمرافق الرياضية، معتبرين أن العُلا قد تتحول إلى نموذج عالمي للسياحة المستدامة في البيئات الصحراوية.
ويقول مسؤولون محليون إن الهدف هو جذب أكثر من مليون زائر سنويًا بحلول عام 2030، مع الحفاظ على خصوصية العُلا كموقع طبيعي وثقافي فريد.
والعُلا لم تعد مجرد أطلال حضارات غابرة، بل أصبحت اليوم مختبرًا حيًا لتجربة السعودية الجديدة — دولة تحتضن الماضي، لكنها تركض بخطى متسارعة نحو المستقبل. وفي قلب هذه الرؤية، يقف الزائر بين الجبال والرمال، يركض، يتنفس، يتأمل… وربما، يكتشف نفسه من جديد.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=72058