نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً حول غياب العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، عن استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال زيارته الرسمية إلى الرياض، وهي سابقة لافتة في سياق العلاقات السعودية-الأميركية.
وبينما قاد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مراسم الاستقبال واللقاءات الرسمية، بدا الغياب العلني للملك بمثابة إشارة رمزية قوية تعكس التحولات الجوهرية في هرم السلطة السعودية.
وذكرت الصحيفة أنه لطالما كانت الاستقبالات الرسمية لرؤساء الولايات المتحدة في السعودية مناسبة تحمل طابعاً بروتوكولياً يرمز إلى متانة العلاقات الثنائية.
وقد دأب الملوك السعوديون، ومنهم الملك سلمان نفسه، على استقبال نظرائهم الأميركيين بشكل شخصي في المطار، كما حدث مع باراك أوباما، ودونالد ترامب في ولايته الأولى، وجو بايدن لاحقاً. إلا أن زيارة ترامب الثانية كسرت هذا التقليد، حيث تولّى محمد بن سلمان استقبال ترامب بمفرده.
هذا التغيير لا يمكن قراءته من منظور صحي بحت، رغم التقدم في سن الملك سلمان (89 عاماً) ومعاناته من مشكلات صحية متكررة. فحتى في مناسبات سابقة رغم مرضه، حرص القصر الملكي على ظهور الملك في محطات مفصلية لإرسال إشارات سياسية واضحة حول استمرارية الدور الرمزي للملك كقائد للدولة.
وغيابه الآن، في زيارة توصف بأنها استراتيجية للجانبين، يشير إلى تطور في طبيعة المشهد السياسي السعودي.
محمد بن سلمان: الحاكم الفعلي بلا منازع
لم يعد من المبالغة وصف الأمير محمد بن سلمان بالحاكم الفعلي للمملكة. فمنذ صعوده إلى منصب ولي العهد عام 2017، بعد إقصاء الأمير محمد بن نايف، أعاد ترتيب موازين القوى داخل العائلة المالكة، وفرض رؤيته الخاصة لإدارة الدولة.
ورغم الحفاظ على وجود الملك سلمان كمرجعية رمزية، بات واضحاً أن القرار السياسي والتنفيذي بات مركزياً بيد ولي العهد.
زيارة ترامب جاءت لتؤكد هذا الواقع. إذ لم يقتصر الأمر على استقبال ولي العهد للضيف الأميركي، بل امتد ليشمل كل اللقاءات الرسمية التي عادة ما يترأسها الملك. وحرص ترامب نفسه على الإشارة إلى العلاقة “الشخصية” التي تجمعه بمحمد بن سلمان، واصفاً إياه بـ”الصديق”، في رسالة واضحة تعكس اعتراف واشنطن العملي بواقع الهيمنة المطلقة لولي العهد على القرار السعودي.
منطق “الدولة الجديدة” في مواجهة الرمزية التقليدية
رؤية 2030، المشروع الذي أطلقه محمد بن سلمان، لم تكن مجرد خطة اقتصادية لتنويع مصادر الدخل السعودي بعيداً عن النفط، بل هي أيضاً مشروع لإعادة صياغة مفهوم السلطة في المملكة.
وبموجب هذه الرؤية، ينتقل مركز الثقل من الشرعية التقليدية المبنية على توازنات العائلة المالكة والعلاقات القبلية والدينية، إلى شرعية تستند إلى الإنجاز الاقتصادي والانفتاح الاجتماعي وإعادة تموضع السعودية كقوة إقليمية طموحة.
في هذا السياق، يصبح تغييب الرموز التقليدية في لحظات مفصلية أمراً منسجماً مع منطق “الدولة الجديدة” الذي يسعى محمد بن سلمان لترسيخه. فغياب الملك سلمان عن مشهد زيارة ترامب، لم يعد يُنظر إليه كفراغ سياسي، بل كمحطة انتقالية طبيعية في سياق هذا التحول.
السياق الأميركي: ترامب وواقعية المصالح
من الجانب الأميركي، تعكس زيارة ترامب هذه المرة واقعية براغماتية في التعامل مع السعودية. فالرئيس الأميركي، المعروف بتركيزه على “الصفقات” أكثر من المبادئ التقليدية للدبلوماسية الأميركية، لا يعير اهتماماً كبيراً للشكليات البروتوكولية، بقدر ما يركز على من يمسك فعلياً بمفاتيح القرار.
لذلك، فإن غياب الملك سلمان عن المشهد لم يغيّر من أولويات ترامب، بل ربما سهّل عليه مهمة التفاوض المباشر مع ولي العهد، دون المرور بالاعتبارات الشكلية للعلاقة بين “رئيس دولة” و”ملك”. وهو أمر يعكس أيضاً تغيراً في طريقة مقاربة واشنطن للعلاقات مع الحلفاء التقليديين في الخليج.
انعكاسات مستقبلية: مرحلة ما بعد سلمان
رغم أن انتقال السلطة رسمياً من الملك سلمان إلى محمد بن سلمان لم يُعلن بعد، فإن إدارة المشهد بهذه الطريقة تعزز قناعة أن السعودية تعيش بالفعل “مرحلة ما بعد سلمان”.
هذا التحول ينعكس في طبيعة التحالفات الإقليمية، ومنهجية صنع القرار، وحتى في طريقة تفاعل المملكة مع الملفات الدولية الكبرى مثل الحرب في غزة، والملف الإيراني، وملفات الطاقة.
كما أن تقديم ولي العهد كوجه رسمي وحيد في استقبال قادة العالم يعكس رغبة متعمدة في إظهار “الاستمرارية” و”الاستقرار” في القيادة، في وقت تتعرض فيه المنطقة لهزات جيوسياسية متلاحقة.
وعليه فإن غياب الملك سلمان عن استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليس مجرد تفصيل بروتوكولي. إنه مؤشر سياسي على مرحلة جديدة في مسيرة السعودية، حيث تترسخ سلطة محمد بن سلمان كقائد فعلي، في ظل غياب تدريجي للرموز التقليدية.
وفي المقابل، يتعامل ترامب مع هذا الواقع ببراغماتية كاملة، مدفوعاً بمنطق المصالح المباشرة. أما على المستوى الأوسع، فإن هذا التحول يعيد تشكيل معادلات القوة داخل المملكة، ويعزز من صورة ولي العهد كلاعب رئيسي في مستقبل المنطقة.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=71578