لجأت سلطات المملكة العربية السعودية إلى تقليص الاعتماد على شركات الاستشارات العالمية وسط ضغوط اقتصادية متزايدة بحسب ما أوردت وكالة بلومبيرغ.
وذكرت الوكالة أنه لعدة سنوات، اعتمدت السعودية على شركات الاستشارات لدفع عملية إصلاح اقتصادي مكلف. ولكن شهية المملكة، التي كانت لا تشبع سابقًا للمستشارين الأجانب، بدأت تتراجع، مما يزيد الضغط على صناعة تعاني بالفعل من ضغوط عالمية متزايدة.
ورغم أن السعودية لا تزال واحدة من أكبر الأسواق لشركات الاستشارات في العالم، فإن وتيرة منح العقود بدأت تتباطأ، وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر.
وقد دفع ذلك بعض الشركات إلى نقل موظفين إلى أماكن أخرى، بما في ذلك الدوحة، حسبما أفاد أحد الأشخاص، والذي رفض الكشف عن هويته نظرًا لخصوصية المعلومات.
وهذا التباطؤ ينعكس على القطاع ككل، بما في ذلك مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، التي توظف أكثر من ألف شخص في المنطقة بعد حملة توظيف قوية في السنوات الأخيرة.
وأشار المطلعون إلى أن العشرات من مستشاري BCG في السعودية ودول خليجية أخرى أصبحوا “على الشاطئ”، وهو تعبير يستخدم في الصناعة لوصف المستشارين الذين لا يعملون حاليًا في أي مشروع.
وقد أدى هذا الانكماش بالفعل إلى عمليات تسريح في شركات مثل وحدة Strategy& التابعة لشركة PwC، وشركة رولاند بيرجر، خلال العام الماضي، وفقًا لبعض الأشخاص.
وتعرضت PwC، التي حققت عائدات سنوية بقيمة 2.5 مليار دولار من منطقة الشرق الأوسط العام الماضي، لضربة أخرى قبل أسابيع عندما قام صندوق الاستثمارات العامة السعودي بحظرها من الحصول على عقود استشارية لمدة عام.
ولم تعلن الشركة علنًا عن أسباب الحظر، لكنها عزته في مذكرة داخلية للموظفين إلى “موقف يتعلق بالتعامل مع العميل”. وأفاد مطلعون أن منافسي PwC ما زالوا يفوزون بعقود من الصندوق السيادي.
وقالت رنا مرستاني، الرئيسة التنفيذية لشركة R Consultancy Group البريطانية، التي تساعد على توسيع الأعمال في السعودية والإمارات: “لسنوات، هيمنت شركات الاستشارات الكبرى على الشرق الأوسط، وحصلت على عقود رئيسية مع الحكومات والكيانات السيادية، لكن الأمور بدأت تتغير”.
وأي تغييرات كبيرة في اعتماد السعودية التقليدي على المستشارين – الذين يتقاضون أجورًا مرتفعة وكانوا يديرون في كثير من الأحيان أقسامًا حكومية كاملة في الرياض وساهموا في صياغة السياسات الوطنية – ستكون بمثابة ضربة قوية للصناعة.
وتشير التقديرات إلى أن العقود الممنوحة من صندوق الاستثمارات العامة وشركاته التابعة وحدها تحقق مئات الملايين من الدولارات كرسوم لشركات الاستشارات.
ومع ذلك، حتى لو قلصت السعودية إنفاقها على بعض المشاريع الكبرى، فإنها تواصل العمل على مشاريع أخرى، وإنفاقها لا يزال ضخمًا. ويرى البعض أن الحظر المؤقت على PwC قد يمثل فرصة لمنافسين آخرين لتحقيق اختراق أعمق في السوق.
وتعتمد الحكومة السعودية على شبكة العلاقات والخبرة العالمية لشركات الاستشارات الكبرى لتنفيذ المشاريع العملاقة والمبادرات ضمن رؤية 2030، وفقًا لما ذكرته Access KSA، وهي شركة استشارات سعودية تعمل على جذب الشركات والاستثمارات الأجنبية إلى المملكة.
وقال الرئيس التنفيذي، سعيد السعدي: “لا شك أنهم ما زالوا بحاجة إلى هذه الشركات وسيظلون بحاجة إليها، لكن هذا يجب أن يكون بمثابة إنذار”.
وأضاف: “السعودية لا توزع الأموال مجانًا، إنهم يدفعون أعلى الأسعار مقابل أعلى قيمة، ويتوقعون الحصول على أفضل تنفيذ وأعلى جودة”.
ويعزى هذا التحول في السعودية جزئيًا إلى انخفاض أسعار النفط وتزايد العجز المالي، مما أدى إلى تعكير الرؤية الاقتصادية وزيادة المنافسة في السوق.
ويزداد تعقيد الوضع بالنسبة لشركات الاستشارات مع تغيّر محتمل في الرأي العام المحلي. فقد كشفت ردود الأفعال على حظر PwC عن بوادر لهذا التغير؛ إذ انتقد بعض السعوديين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإنفاق المفرط على المستشارين الأجانب، في حين دعا آخرون بشدة إلى توظيف المزيد من الكفاءات المحلية.
وتُتهم الشركات العالمية بأنها ترسل مستشارين مبتدئين لا يمتلكون معرفة بالسوق الإقليمي، ويطبقون نماذج عمل غربية على أسواق تختلف ديناميكياتها تمامًا، حسبما قالت مرستاني من R Consultancy Group.
وأضافت: “هناك أيضًا مسألة التكلفة؛ إذ تتساءل الشركات والجهات الحكومية عن سبب دفعها لملايين الدولارات لقاء نصائح يمكن للذكاء الاصطناعي والفرق الداخلية تقديمها بسرعة وبتكلفة أقل”.
ويأتي ضعف السوق في السعودية في وقت حرج بالنسبة للقطاع، حيث تواجه شركات الاستشارات انتكاسات في أسواق الصين وأستراليا وأفريقيا وبريطانيا.
وقد تعرضت هذه الشركات أحيانًا لانتقادات بسبب عملها مع السعودية، ووُجهت لبعض مسؤوليها التنفيذيين مساءلات من الكونغرس الأمريكي في الماضي.
وفي المقابل، حذرت السعودية المصرفيين والمستشارين الذين تتعامل معهم بأنها قد تلاحقهم قضائيًا، بل وتسجنهم، إذا تعاونوا مع تحقيقات يجريها مشرعون أمريكيون حول بعض تلك الأعمال.
وقال توم رودنهاوزر، الشريك الإداري في “كينيدي إنتليجنس”، التي تتابع شركات الاستشارات: “هناك عدة رياح معاكسة، أبرزها تراجع الصين كسوق للنمو”. وأضاف: “التراجع السعودي، إضافة إلى احتمال تقليص الحكومة الفيدرالية الأمريكية من تعاونها مع هذه الشركات، لهما تأثير كبير”.
ورغم أنه من غير المرجح أن تفصل السعودية نفسها بالكامل عن قطاع الاستشارات، فإن المحللين يتوقعون تحوّلًا في نوع الشركات التي ستتعامل معها المملكة.
وأشار السعدي من Access KSA إلى أن هناك تفضيلًا متزايدًا للشركات الاستشارية الخاصة التي تعمل داخليًا على حساب بعض الشركات الكبرى، كما أن هناك رغبة متزايدة في توظيف مستشارين سعوديين يمكنهم تقديم نفس الخدمات، لكن بتكاليف أقل بكثير.
وهناك تغيير آخر محتمل يتمثل في الانتقال من مستشارين متخصصين في وضع الاستراتيجيات إلى مستشارين متخصصين في التنفيذ. فمنذ عقد من الزمن، كانت السعودية تركز على وضع رؤى وخطط استراتيجية، وهو ما جعل مستشاري الاستراتيجيات يتقاضون أعلى الأجور مقابل وضع مخططات طموحة للمملكة.
أما اليوم، ومع تقدم المشاريع من مرحلة العروض التقديمية النظرية إلى مواقع البناء الفعلية، فقد تغيّر نوع الخبرة التي تحتاجها المملكة. ويضطر المستشارون الآن إلى تقديم خدمات تنفيذية، لضمان إتمام المشاريع القائمة بكفاءة وفعالية.
ويقول الخبراء إن الشركات التي تفشل في التكيف مع هذا التغير الجذري في السوق ستجد صعوبة في الحصول على مشاريع جديدة.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=70914