سارع المُقرض الرئيسي للقاهرة وأكبر المانحين الخليجيين إلى إنقاذ الاقتصاد المصري من جديد، حيث قدما قروضاً كبيرة، واستثمارات، وتحويلات من “البنك المركزي” يمكن أن توقف الانحدار الاقتصادي الأخير في البلاد على الرغم من معاناة المستهلكين على المدى القصير.
وفي 6 آذار/مارس، أعلن “البنك المركزي المصري” عن تخفيض قيمة العملة الذي طال انتظاره لتمهيد الطريق لتنفيذ برنامج قرض موسع من “صندوق النقد الدولي” بقيمة 8 مليارات دولار.
وقال معهد واشنطن في الشرق الأدنى إن هذه الخطوة قد أصبحت ممكنة بفضل الضخ النقدي الناتج من صفقة استثمارية عقارية ضخمة أُبرِمت مع الإمارات قبل أسبوعين.
لكن على المدى القصير، من المرجح أن يعاني المصريون من ارتفاع الأسعار خلال شهر رمضان، على الرغم من تركيز “صندوق النقد الدولي” و”البنك المركزي” على الحد من التضخم.
البيع الضخم
في 23 شباط/فبراير، وقّع رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي صفقة بقيمة 35 مليار دولار مع دولة الإمارات تشمل تطوير منطقة رأس الحكمة، الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط بين الإسكندرية ومرسى مطروح.
ووافق “صندوق الثروة السيادي” الإماراتي “القابضة” (ADQ) على شراء 171 مليون متر مربع من الأراضي مقابل 24 مليار دولار، مع سداد 11 مليار دولار للقاهرة من الودائع الإماراتية الحالية في “البنك المركزي المصري”.
ووفقاً لمدبولي، سيتم تحويل 5 مليارات دولار من هذه الودائع إلى القاهرة في إطار صفقة رأس الحكمة، بينما سيُستخدَم مبلغ 6 مليارات دولار “للاستثمار في مشاريع رئيسية في جميع أنحاء مصر لدعم نموها الاقتصادي وازدهارها”.
وقد يكون الهدف التالي هو منطقة منتجع جديدة على البحر الأحمر.
ومن المتوقع أن يجذب مشروع رأس الحكمة، الذي من المقرر أن يبدأ العمل به في عام 2025، استثمارات بقيمة 150 مليار دولار لتحويل المنطقة إلى وجهة سياحية ومنطقة صناعية ومطار، مما يخلق فرص عمل للشركات والعمال المصريين في غضون ذلك.
وستحتفظ مصر بحصة قدرها 35% في هذا المشروع – وأحد الشركاء المذكورين هو “مجموعة طلعت مصطفى”، التي هي تكتّل بِناء مقرّب من الحكومة وجِهة فاعلة رئيسية في بناء العاصمة الإدارية الجديدة خارج القاهرة.
وتُعد “القابضة” (ADQ)، التي تسيطر على أصول تبلغ قيمتها نحو 200 مليار دولار، أصغر صناديق الثروة السيادية الثلاثة في الإمارات، بعد “جهاز أبوظبي للاستثمار” (1 تريليون دولار) و”مبادلة” (275 مليار دولار).
ويرأس كلاً من “جهاز أبو ظبي للاستثمار” و”القابضة” مستشار الأمن الوطني الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، وهو الشقيق النافذ للرئيس محمد بن زايد. ويمثّل استثمار رأس الحكمة أكثر من 10% من محفظة “القابضة”.
والأهم من ذلك، أنه يؤكد من جديد العلاقة الوثيقة بين قادة البلدين والتزام الإمارات باستقرار مصر، وهو ما أظهرته أبو ظبي أكثر من أي جهة مانحة خليجية أخرى منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة.
التأثير الاقتصادي
على المدى القريب، سيساعد الضخ النقدي في التخفيف من حدة الأزمة المالية في مصر، وإدخال الدولارات التي تشتد الحاجة إليها في الاقتصاد الذي يعاني من تضخم قياسي وأزمة عملة.
وبعد تعويم العملة مباشرةً هذا الأسبوع، بلغ سعر الصرف 50 جنيهاً للدولار الواحد، بعد أن كان يبلغ 30 جنيهاً في معظم العام؛ أما سعر السوق السوداء، فقفز ليصل إلى 70 جنيهاً. وهذا الانخفاض في قيمة العملة هو الخامس منذ نيسان/أبريل 2022، عندما كان السعر يبلغ 15 جنيهاً.
ووفقاً “للبنك المركزي”، “يُعتبَر توحيد سعر الصرف إجراءً بالغ الأهمية، حيث يساهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمي والموازي”.
والواقع أن نقص الدولارات تسبب في تباطؤ الواردات، وأدى إلى نقص الإمدادات الحيوية، وعرقل الاستثمار.
ومن المفترض أن تساعد الدفعة الأولى من الصفقة الإماراتية – التي تم تسليمها بقيمة 10 مليارات دولار – في تعويض هذا الانخفاض في قيمة العملة، مع تخفيف قيود السحب المصرفي وعكس اتجاه الانخفاض في التحويلات المالية (التي انخفضت بسبب المخاوف من عدم إمكانية الوصول إلى التحويلات).
ومن المتوقع أن تقوم دولة الإمارات بدفع الجزء المتبقي في غضون شهرين.
بالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن تخفف هذه الأموال أيضاً من حدة أزمة الديون في مصر.
فاعتباراً من أيلول/سبتمبر 2023، تجاوزت نسبة الدين الخارجي إلى “الناتج المحلي الإجمالي” في البلاد 42%، بينما اقتربت الديون القصيرة الأجل وخدمة الديون من 40 مليار دولار، مقارنةً بـ 35 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية.
وفي الوقت نفسه، انخفضت الإيرادات بشكلٍ كبيرٍ، ويرجع ذلك جزئياً إلى حرب غزة. وقد تراجعت السياحة، وانخفضت إيرادات العملات الأجنبية من معابر قناة السويس إلى النصف – من 700 مليون دولار في كانون الثاني/يناير 2023 إلى 350 مليون دولار في كانون الثاني/يناير من هذا العام – بسبب الهجمات المستمرة على الشحن التجاري من قبل حركة الحوثي اليمنية.
ولا يزال من غير الواضح بالضبط كيف سيتم تحويل 11 مليار دولار من الودائع الإماراتية على الصعيد العملي.
فاعتباراً من تشرين الأول/أكتوبر، كانت الإمارات تحتفظ بمبلغ 6.3 مليارات دولار في “البنك المركزي المصري”، بالإضافة إلى نسبة غير محددة من مبلغ 16 مليار دولار كانت قد قدّمته دول عربية مختلفة لمساعدة القاهرة في التغلب على المشاكل الاقتصادية السابقة.
ورغم أن مبلغ 11 مليار دولار لا يمكن تحويله بسهولة إلى استثمارات، إلا أنه سيزيد فوراً الميزانية العمومية الخاصة بـ”البنك المركزي”، التي بلغ مجموعها 35.3 مليار دولار من الاحتياطيات الدولية اعتباراً من 1 شباط/فبراير.
معايير الإصلاح
في أعقاب تعويم العملة المصرية، أعلن “صندوق النقد الدولي” عن التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء لزيادة برنامج القرض إلى 8 مليارات دولار.
وتم إنشاء البرنامج السابق بقيمة 3 مليارات دولار في كانون الأول/ديسمبر 2022، عندما اتفقت الأطراف على “برنامج التسهيلات الموسع” بعد أن أدت جائحة “كوفيد-19” وحرب أوكرانيا إلى زيادة تكلفة القمح بشكل كبير.
وأصبحت مصر في أعقاب هذه الصفقة ثاني أكبر دولة مقترضة من “صندوق النقد الدولي” بعد الأرجنتين.
وفي إطار برنامج عام 2022، وافقت القاهرة على تعويم عملتها، والحد من الإنفاق، وتنفيذ برنامج خصخصة عبر بيع نسبة من الشركات التي تملكها الدولة.
ومع ذلك، فقد تم تأجيل معظم هذه الإجراءات طوال عام 2023 وسط حملة إعادة انتخاب السيسي، مما دفع مديرة “صندوق النقد الدولي” كريستالينا جورجييفا إلى التحذير من أن مصر سوف “تستنزف احتياطياتها” ما لم تخفّض قيمة عملتها.
إلا أن جورجييفا تعاطفت أكثر مع مصر منذ اندلاع حرب غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بإدراكها تأثير هذا الصراع على الاقتصاد المصري. وفي الآونة الأخيرة، وصفت الصفقة الإماراتية بأنها “علامة إيجابية للغاية”.
ولكن من الجدير بالذكر أن قيمة برنامج “صندوق النقد الدولي” البالغة 8 مليارات دولار هي أدنى من القيمة الأصلية المتوقعة التي تتراوح بين 10 و12 مليار دولار.
وفيما يتعلق بالخصخصة، دعا برنامج “صندوق النقد الدولي” السابق مصر إلى تنفيذ خطتها الخاصة المتعلقة بالخصصة من خلال بيع 35 شركة تملكها الدولة، من بينها بعض الشركات المملوكة للجيش.
وفي كانون الأول/ديسمبر، أعلن مدبولي أن الحكومة جمعت 5.6 مليار دولار من البيع الإجمالي أو الجزئي لـ 14 شركة، بما فيها الشركات الصناعية والفنادق ومبادرات الطاقة المتجددة. وكان معظم المشترين شركات مصرية خاصة مقرّبة من الحكومة (والتي ركزت على الإسراع في شراء الفنادق) وكيانات إماراتية.
ومن الصعب التحقق من الرقم البالغ 5.6 مليار دولار، لأن عدداً كبيراً من الصفقات المعلن عنها أشار إلى وجود مجموعة من حصص الملكية ولم يحدد سعر البيع الفعلي.
وبما أن معظم هذه المشتريات كان عبارة عن حصص أقلية، فقد يكون للمشترين تأثير محدود على أداء الشركات وكفاءتها – وهو أحد الأهداف الرئيسية للخصخصة. ومع ذلك، قد يظهر مستثمرون جدد عند استقرار الجنيه.
وفي الوقت الحالي، تبقى الشركات المملوكة للدولة التي هي أكثر قيمة، غير مباعة، ومن بينها البنوك وشركات التأمين.
الدور الأمريكي
من وجهة نظر واشنطن، طغت حرب غزة والدور المحوري الذي أدته القاهرة كوسيط مع “حماس” على المخاطر الاقتصادية التي تواجهها مصر.
وتشكل معالجة الأزمة المالية وآثارها المحتملة على استقرار مصر هدفاً أمريكياً طويل الأمد، ولكنها ليست أولوية ملحة، خاصةً وأن المراقبين يتوقعون أن يؤدي إنهاء الحرب إلى تحسين تدفق الإيرادات إلى القاهرة وتمهيد الطريق أمام الشركات المصرية للمشاركة في إعادة إعمار غزة.
علاوةً على ذلك، تتمتع الإمارات بنفوذ أكبر بكثير على عملية صنع القرار الاقتصادي في مصر من نفوذ واشنطن، في ظل وجود محفظة ضخمة من الاستثمارات الحالية والمستقبلية وتَوافُق وجهة النظر حول حقوق الإنسان.
ومع ذلك، لا يزال بوسع الولايات المتحدة أن تؤدي دوراً مهماً من خلال تشجيع الممارسات الاقتصادية السليمة، بدءاً من خفض الإنفاق العام ووصولاً إلى تنفيذ عناصر أخرى من برنامج الإصلاح الذي وضعه “صندوق النقد الدولي”.
ويشمل ذلك العمل مع “صندوق النقد الدولي” ومصر على تحسين القطاع الخاص من خلال الحد من مزايا الشركات المملوكة للدولة والجيش.
ويجب على إدارة بايدن والكونغرس أيضاً تشجيع الاستثمار الأمريكي الخاص في مصر، فضلاً عن مبادرات القطاعين العام والخاص مثل “صندوق المشروعات المصري الأمريكي”، الذي استثمر في شركات الأسهم الخاصة المربحة على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة على مدى العقد الماضي.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=66773