يمثل التنويع الاقتصادي في دول الخليج أمرا ملحا بالنظر إلى اعتمادها على إيرادات بيع النفط والدراسات التي تقدّر انخفاض الطلب العالمي على النفط، لكن المطلوب لا يزال أكثر بكثير.
وقد حرصت كل دولة من دول الخليج على كتابة رؤية اقتصاديّة شاملة، لتقود من خلالها مسيرتها وبرامجها التنمويّة على المدى البعيد، بحسب ما أبرزت مؤسسة “فنك” الأوروبية.
وفي الوقت الراهن، تشمل لائحة هذه الخطط المرجعيّة: رؤية “قطر الوطنيّة 2030″، وخطّة “كويت جديدة 2034″، ووثيقة “نحن الإمارات 2031″، ورؤية “البحرين الاقتصاديّة 2030″، ومشروع “عمّان 2040″، بالإضافة إلى رؤية “السعوديّة 2030″.
وكما هو واضح، وضعت كل دولة سنة محدّدة ضمن عنوان الرؤية أو الخطّة الشاملة الّتي تم إقرارها، كمحاولةٍ للوصول إلى المستهدفات الاقتصاديّة والتنمويّة بحلول ذلك التاريخ.
التنويع الاقتصادي هدف مشترك
بمجرّد الاطلاع على جميع هذه الوثائق، يظهر سريعًا تفاوت أولويّات وأهداف هذه الدول، وذلك باختلاف إمكاناتها ومواردها، وتنوّع طموحاتها والأدوار الذي ترغب بلعبها على المستوى الإقليمي والدولي.
لكن وعلى الرغم من كل ذلك، تشاركت كل هذه الدول الإصرار الشديد على هدف رئيس، وهو التنويع في اقتصادها المحليّ، أي تخفيف الاعتماد على صادرات النفط والغاز، وتنمية القطاعات الاقتصاديّة غير النفطيّة.
ولتحقيق هذا الهدف، نصّت الرؤى والخطط الاقتصاديّة الخليجيّة على أهداف ملموسة، مثل تخفيض حصّة الأنشطة النفطيّة من الناتج المحلّي، أو زيادة نسبة توظيف اليد العاملة في الأنشطة غير النفطيّة، أو تنمية قطاعات صناعيّة أو زراعيّة أو سياحيّة محددة، بالإضافة إلى تخفيض نسبة الإيرادات النفطيّة من الميزانيّات العامّة.
باختصار، المطلوب هو تهيئة دول الخليج لمرحلة ما بعد النفط، والتخلّص من مخاطر ارتهان هذه الدول على عوائد تصدير النفط والغاز.
ضرورة التنويع الاقتصادي
في واقع الأمر، تمتلك الدول الخليجيّة ما يكفي من أسباب للذهاب بهذا الاتجاه، وللتوجّس من فكرة اعتمادها الحالي على النشاط الاقتصادي النفطي.
فخلال تفشّي جائحة كورونا، وما شهدته تلك المرحلة من تهاوي في أسعار النفط العالميّة، ظهرت هشاشة الدول الخليجيّة أمام مخاطر تقلّب أسعار النفط.
وكانت وكالة “ستاندرد آند بورز” قد قدّرت بلوغ إجمالي عجوزات الميزانيّات العامّة في دول مجلس التعاون الخليجي نحو 180 مليار دولار أميركي، خلال سنة 2020، نتيجة تدهور أسعار النفط.
كما قدّرت الوكالة أن يبلغ إجمالي عجوزات الموازنات الخليجيّة في السنوات الثلاث الّتي تلت تفشّي الوباء 490 مليار دولار أميركي.
من حسن حظ دول الخليج أنّها تمكنت من تجاوز تلك المرحلة بشق الأنفس، بفضل الاحتياطات الضخمة التي تمتلكها في مصارفها المركزيّة وصناديقها السّياديّة.
إلا أنّ هذه التجربة قد قرعت جرس الإنذار، إذ أنّ الميزانيّات العامّة لدول الخليج لا تزال معرّضة في أيّ لحظة لعوامل الضعف، التي يمكن أن تنتج عن تقلّبات أسعار النفط في الأسواق العالميّة، ما قد يحد من قدرتها على تمويل نفقات قطاعاتها العامّة.
وبمعزل عن مخاطر هذا العامل بالنسبة للميزانيّات العامّة الخليجيّة، تدرك دول الخليج أيضًا مخاطر الاعتماد على النفط بالنسبة إلى نشاط القطاع الخاص، وقدرته على خلق الوظائف.
فالقطاعُ النفطي مازال حتّى اللّحظة يولّد نصف الناتج المحلّي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي، ما يربط تلقائيًا معدلات النمو الاقتصادي بحجم الإيرادات النفطيّة.
وهذا ما أدّى إلى انكماش الناتج المحلّي في دول الخليج بنحو 4.8% سنة 2020، بحسب أرقام البنك الدولي، نتيجة الانخفاض الذي شهدته أسعار النفط في تلك السنة.
وبالإضافة إلى كلّ هذه المخاطر، تتحسّب دول الخليج منذ الآن لمرحلة تراجع الطلب العالمي على النفط على المدى البعيد، وهو ما سيقلّص تدريجيًا من مردود الصادرات النفطيّة.
فوكالة الطاقة الدوليّة تتوقّع أن يكون عام 2028 عام الذروة من ناحية الطلب على مصادر الطاقة الإحفوريّة، قبل أن يتوقّف نمو الطلب كليًا بحلول العام 2030، على أن يبدأ بعدها التراجع التدريجي في استهلاك النفط والغاز.
وهذه التقديرات جاءت بعد دراسة المشاريع الحكوميّة وحجم الاستثمارات التي يتم توجيهها حاليًا لأسواق الطاقة المتجددة، والتي يفترض أن تحل تدريجيًا مكان مصادر الطاقة الإحفوريّة على المدى البعيد.
أمّا الأهم، فهو أنّ دول الخليج تدرك أنّ نفطها آيل للنضوب في جميع الحالات على المدى المنظور، خلال العقود المقبلة.
وهذا ما يفترض أنّ تأخذه الأجيال الحاليّة بعين الاعتبار، إذا أرادت الحفاظ على بحبوحة الأجيال المقبلة، وعلى المكانة الاقتصاديّة لدولها في المستقبل.
حاليًا، يصعب تقدير التاريخ المتوقّع لنفاد احتياطات النفط الخليجيّة، بسبب ارتباط هذا التقدير بمعدلات الإنتاج والاكتشافات الجديدة، والتي يصعب التبّؤ بها اليوم.
لكنّ الدراسات المتوفّرة تشير إلى أنّ عُمان والبحرين ستكونان في طليعة الدول الخليجيّة التي ستستنزف احتياطاتها النفطيّة بالكامل، خلال فترة قد تتراوح بين 10 و25 سنة، بسبب محدوديّة الاحتياطات المتوفّرة لديها.
خطط التنويع الاقتصادي القائمة
تراهن كلّ دولة خليجيّة، في إطار الرؤى الاقتصاديّة التي رسمتها، على مجموعة من السياسات التي وضعتها لتعزيز قطاعاتها الإنتاجيّة وتعزيز تنوّعها الاقتصادي.
فالمملكةُ العربيّة السعوديّة مثلًا، تستهدف التحوّل إلى قطب مالي رئيس في منطقة الخليج، وهو ما سيزيد –بحسب الخطط الموضوعة- من مساهمة القطاعات الماليّة في الناتج المحلّي الإجمالي.
وللوصول إلى هذه النتيجة، تحرص المملكة على الانتقال إلى نموذج السوق المفتوح والمسهّل للأعمال، والمرتكز على رزمٍ ضخمة من الحوافز الضريبيّة والتسهيلات الإداريّة.
كما تراهن المملكة على الدور الذي يمكن أن تلعبه العاصمة “الرياض”، كمركز مالي إقليمي على مستوى الشرق الأوسط.
وعلى المقلب الآخر، تحاول السعوديّة في الوقت نفسه الاستفادة من إيرادات النفط الحاليّة، للتوسّع الاستثماري في البنية التحتيّة الصناعيّة، التي ستسمح بتوسيع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلّي.
ومن هذه الزاوية، يمكن فهم مخططات ولي العهد محمد بن سلمان لإنشاء أكبر مدينة صناعيّة عائمة في العالم، بجوار مشروع “نيوم” العملاق على شاطئ البحر الأحمر.
وكذلك بدء السعوديّة بتنفيذ مشروعها الطموح لإنشاء أكبر مصنع للهيدروجين الأخضر، في المنطقة نفسها، على أن يبدأ الإنتاج من خلال هذا المصنع بحلول العام 2026.
من ناحيتها، تتطلّع قطر إلى توسيع مساهمة القطاع السياحي إلى 12% من ناتجها المحلّي، بحلول العام 2030. وهذا ما دفعها منذ سنوات إلى التوسّع بالاستثمار في القطاع الفندقي بالتحديد، الذي زاد عدد غرفه بحلول العام 2022 إلى 45 ألف غرفة.
ولتحقيق قفزة في أعداد السيّاح المتجهين إليها، تحاول قطر تنويع الأسواق المصدّرة للسياحة باتجاهها، عبر استقطاب المزيد من السيّاح الهنود والصينيين، والذين يبحثون عن وجهة قريبة ومجاورة لبلدانهم.
ومن المعلوم أنّ استضافة مناسبة كأس العام عام 2022 جاءت من ضمن مساعي قطر لتسويق نفسها كوجهة سياحيّة أساسيّة، بحسب مستهدفات رؤية “قطر 2030”.
مشروع الكويت للتنويع الاقتصادي قام -بحسب خطّة “كويت جديدة 2035”- على محاولة إعادة هيكلة الإجراءات الحكوميّة، بهدف زيادة فعاليّتها وكفاءتها، وهو ما سيسمح باستقطاب الاستثمار الأجنبي في قطاعات المعرفة والصناعة والتجارة.
كما تستهدف الخطّة تطوير الرأسمال البشري المتوفّر، لتوفير الكوادر الذين يملكون بالتالي القدرة على النهوض بهذه القطاعات.
لكن وعلى الرغم من مرور سبع سنوات على إقرار هذه الخطّة، لم تبدأ الكويت بتنفيذ أي مندرجاتها الأساسيّة، بسبب الاضطرابات السياسيّة المتكرّرة التي تمر بها البلاد، والتي أفضت إلى استقالة الحكومات بشكل متكرّر وسريع.
وبعكس كل مستهدفات الخطّة، مازال القطاع النفطي الكويتي يشكّل أكثر من نصف الناتج المحلّي الإجمالي، ما يشير إلى فشل الكويت في الاقتراب من أهداف هذه الخطّة.
في عمان، تعمل وزارة الاقتصاد في ضوء مشروع “عمان 2030″، للنهوض بقطاعات التعدين والصناعات الغذائيّة اللّوجستيات والصناعات التحويليّة، مستفيدة من وجود قاعدة إنتاجيّة موجودة أساسًا لهذه القطاعات.
وتبحث وزارة الاقتصاد في كيفيّة تكامل هذه القطاعات مع بعضها بعضًا، من خلال بناء سلاسل توريد وإنتاج مشتركة، بما يخفّض كلفة الإنتاج ويزيد من تنافسيّة الصناعات المحليّة.
أمّا البحرين، فتحاول التركيز على تسهيل الإجراءات الضريبيّة والحكوميّة، بهدف تعزيز نشاط القطاع التجاري، بالاستفادة من الموقع الجغرافي المميّز للمملكة.
مع الإشارة إلى أنّ تركيز البحرين على القطاع التجاري يأتي لمعرفتها بمحدوديّة قدرتها على التوسّع كثيرًا في القطاعات الإنتاجيّة الأخرى، بفعل محدوديّة المساحة الجغرافيّة للبلاد.
وخلال العقدين الماضيين، تمكّنت البحرين من زيادة حصّة القطاعات غير النفطيّة من الناتج المحلّي من 57.9% عام 2002، إلى 83.1% عام 2022، ما عكس تقدّمًا ملحوظًا على مستوى التنوع الاقتصادي المحلّي للبلاد.
من بين جميع التجارب الخليجيّة، تبرز الإمارات العربيّة المتحدة بوصفها صاحبة النموذج الأنجح في مجال التنويع الاقتصادي، بعدما تمكّنت من رفع مساهمة القطاعات غير النفطيّة في الناتج المحلّي الإجمالي لديها إلى حدود ال73.5% خلال العام 2022، مقارنة بنسبة لم تتجاوز ال10% عند تأسيس الدولة عام 1971.
وجاءت هذه التطوّرات مدفوعةً بنمو مضطرد لتجارة الدولة الخارجيّة غير النفطيّة، التي ارتفعت لتلامس حدود ال608.44 مليار دولار عام 2022، أي بنسبة نمو كبيرة قاربت ال17% مقارنة بالعام السابق.
تجربة الإمارات، قامت تاريخيًا على تطوير البيئة الاستثماريّة والتنظيمات الحكوميّة والقوانين المحليّة، في ظل اقتصاد منفتح ومنظّم، ما لاءم حاجات توسّع القطاع التجاري، الذي استفاد بدوره من موقع البلاد الذي يتوسّط دول شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
كما عزّز هذه التجربة الناجحة نمو القطاع المالي المضطرد، الذي تمكّن من رفد السوق المحلّي بالتمويل المطلوب لانتعاش القطاعات غير النفطيّة.
المطلوب أكثر في مجال التنويع الاقتصادي
مراجعة مسار دول الخليج على مستوى التنويع الاقتصادي، سرعان ما تُظهر تفاوت التقدّم الذي أحرزته كلّ من هذه الدول.
ومع ذلك، يمكن القول إن هناك حاجّة ماسّة للمزيد من الإنجازات في هذه المجال، وفي جميع الدول الخليجيّة من دون استثناء.
فحتّى هذه اللّحظة، مازالت إيرادات النفط والغاز، التي تعتمد على الأسعار في أسواق الطاقة، هي المحدّد الأساسي لحجم العجز السنوي في ميزانيّات الدول الخليجيّة.
ولهذا السبب، من المقدّر أن تسجّل الميزانيّات العامّة الخليجيّة مجتمعةً عجزًا إجماليًا بقيمة 13.5 مليار دولار أميركي عام 2023، بفعل انخفاض سعر برميل النفط هذه السنة، مقارنة بفائض إجمالي قارب حدود ال27.9 مليار دولار أميركي خلال العام السابق.
وتشير الأرقام إلى أنّ إيرادات بيع النفط والغاز مازالت تمثّل 88.3% من واردات الخزينة في الكويت، و81.6% من الإيرادات في قطر.
أمّا في السعوديّة، وعلى الرغم من نمو الأنشطة الاقتصاديّة غير النفطيّة بنسبة 36% خلال الربع الأوّل من العام 2023، مازالت إيرادات تصدير النفط تؤمّن وحدها 64% من واردات الموازنة العامّة.
وحتّى في عُمان، التي تملك احتياطات نفطيّة محدودة مقارنة بسائر الدول الخليجيّة، مازالت الصادرات النفطيّة مسؤولة عن توفير 53% من واردات الخزينة.
وفي الإمارات، وبالرغم من كلّ التوسّع الباهر الذي شهدته هذه الدولة في أنشطة القطاعات الاقتصاديّة غير النفطيّة، مازالت الإيرادات النفطيّة تمثّل وحدها نحو 45% من واردات الخزينة العامّة.
بصورة أوضح، لم تحقق جميع دول الخليج، بما فيها تلك التي تقدمت في مجال التنويع الاقتصادي، أهداف خططها التنمويّة المعلنة.
وهذا ما يفرض اليوم الضغط باتجاه تسريع وتيرة العمل باتجاه تخلّص دول الخليج من إشكاليّة اعتمادها الشديد على إيرادات بيع النفط، خصوصًا أن الدراسات تقدّر أن العالم سيدخل مرحلة انخفاض الطلب على النفط خلال سنوات قليلة.
وبالتأكيد، سيكون من الأفضل للدول الخليجيّة أن تستكمل سياسات تنويع اقتصاداتها الآن، بالاستفادة من الأوضاع الاقتصاديّة الجيّدة التي تنعم بها، بدل أن تستكمل هذا المسار بعد انخفاض الطلب على النفط والغاز، وخلال ظروف اقتصاديّة ضاغطة.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=63897