كيف نقلت سوريا الأسد جثث ضحاياها: شبكة نقل سرية وشاحنات مبردة ومقابر متنقلة

على امتداد سنوات الحرب، نسجت أجهزة النظام السوري منظومة متكاملة للتخلص من جثث المعتقلين والقتلى بعيدًا عن الأعين: مصادر متطابقة تتحدث عن مصادرة شاحنات تبريد مدنية (منها شاحنات آيس كريم ولحوم وخضار) وتسخير سائقين وحفارين ومشرفين بلديين، لدفن الآلاف ليلًا في مقابر جماعية حول دمشق، قبل أن يجري لاحقًا تفريغ بعض تلك المقابر ونقلها إلى الصحراء لإخفاء الأدلة.

ووصف سوريون عملوا مكرهين كسائقين وحفارين لموقع ميدل إيست آي البريطاني، “نشاطًا صناعيًا” يُدار قبل الفجر: استدعاء سائقين عبر تجار سوق الهال بدمشق، توجيههم إلى فروع الأمن ثم إلى المستشفيات العسكرية لتحميل الجثث إلى شاحنات تبريد مغلقة—بعضها كان ينقل سابقًا آيس كريم أو لحومًا قادمة من الخليج أو البضائع من تركيا—ثم الانطلاق نحو مواقع دفن مثل نجها جنوب دمشق.

والرائحة “التي لا تُنكر” كانت تسبق القوافل وتفضح حمولتها، فيما كان الحفارون يُدفنون طبقاتٍ فوق طبقات قبل صب الخرسانة وبناء قبور عامة فوقها لطمس المعالم.

من نجها والقطيفة… إلى صحراء الضمير

وثق التحقيق الأحدث لوكالة رويترز حلقة أشد قتامة: عملية سرية استمرت بين 2019 و2021 لنقل كتلٍ ضخمة من رفات المدفونين في مقبرة القطيفة—التي عُرفت طويلًا كإحدى أكبر المقابر الجماعية—إلى موقع صحراوي معزول قرب الضمير.

الاسم الحركي الذي استخدمه المنفذون: “عملية تحريك الأرض”. استند التحقيق إلى صور أقمار صناعية ووثائق وشهادات (منها ضابط سابق في الحرس الجمهوري)، كاشفًا شبكة لوجستية قضت بإخراج الجثث ليلًا أربع ليالٍ أسبوعيًا ونقلها إلى خنادق طويلة حفرتها الجرافات في الصحراء. تقدر رويترز أن عشرات الآلاف أُعيد دفنهم هناك، في خنادق لا تقل عن 34 شقا طوليًا.

لماذا نُقلت المقابر؟

وفق رواية الشهود ووثائق اطلعَت عليها رويترز، كان نقل المدافن جزءًا من سعيٍ لتلميع صورة النظام وهو يحاول العودة إلى الساحة الدولية، عبر إخفاء مسرح الجريمة الأصلي وتقليل فرص العثور على أدلة جنائية في مواقع كانت معروفة نسبيًا (مثل القطيفة).

لكن هذا “الحل” ولد مشكلة إضافية: تدهور إمكانات التعرف على الضحايا بسبب إعادة الدفن العشوائية وخلط الرفات وانعدام السجلات الطبية/العدلية المرافقة.

وأقرت لجنة وطنية للمفقودين—شُكلت بعد سقوط النظام— بأن طريقة النقل إلى موقع الضمير ستجعل التعرف على الهويات أكثر صعوبة، وطالبت بتسييج الموقع وحمايته فورًا.

أدوار قسرية… وبيروقراطية للموت

ترسم الشهادات الميدانية أيضًا كيف تحولت قطاعات مدنية إلى تروس في آلة الموت البيروقراطية: موظفون بلديون نُقلوا قسرًا من أعمال الهدم والخدمات إلى الحفر والإشراف على الدفن، وسائقون صودرت شاحناتهم التجارية أو أُجبروا على قيادتها لصالح الأجهزة الأمنية، إلى جانب استخدام أساطيل مملوكة لرجال أعمال مقربين من السلطة.

وتذكر الإفادات أن كل شاحنة تبريد كانت تحمل مئات الجثث، تُفرغ على دفعات في حفر جماعية بعُمق عدة أمتار، قبل ردمها وصب الخرسانة فوقها. هذه الروايات تتقاطع مع ما نشرته رويترز حول نقل الجثث من المستشفيات العسكرية إلى مواقع الدفن منذ بدايات الصراع.

وقيمة تحقيق رويترز تكمن في التحقق المتقاطع: مقابلات مع 13 مطلعًا، تحليل صور أقمار صناعية تُظهر نشاط الحفر والردم ومسارات النقل، ووثائق داخلية تشرح التسلسل القيادي والغطاء البيروقراطي.

ويخرج هذا الجمع بالقضية من حيز الروايات الفردية إلى نمطٍ منظم ترعاه الدولة بهدف الإخفاء الممنهج للأدلة—وهو ما ينسجم مع سلسلة أوسع من التوثيق الإعلامي والاستقصائي لانتهاكات الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري في سوريا.

وبعد نشر التحقيقات، طالبت هيئاتٌ سورية ودولية بحفظ مواقع الدفن واعتبارها مسرح جريمة إلى حين بدء أعمال طب شرعي احترافية: عزل الموقع، منع العبث، إنشاء قاعدة DNA شاملة، وتطوير بروتوكولات نبشٍ وتوثيق تضمن عدم تضييع الأدلة وتمكن العائلات من الحق في معرفة مصير أحبائها.

لكن خبراء يُحذرون من أن إعادة الدفن وخلط الرفات—كما جرى في الضمير—سيعقد المهمة لسنوات.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.