قراءة في انسحاب حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى شمال العراق

في مشهد لم تشهده تركيا منذ أربعة عقود من الصراع المسلح، أعلن حزب العمال الكردستاني سحب جميع مقاتليه من الأراضي التركية إلى قواعده في جبال قنديل شمال العراق، في خطوة وصفها قادته بأنها “التزام كامل بعملية السلام ودعوة للانتقال السياسي”.

ويأتي القرار بعد سلسلة من الخطوات الرمزية التي سبقت الإعلان، أبرزها تدمير جزء من ترسانة الحزب في يوليو الماضي، في رسالة تعكس رغبته في طي صفحة العمل المسلح لصالح مسار سياسي سلمي، استجابة لدعوة زعيمه المسجون عبد الله أوجلان.

ويمثل إعلان الانسحاب تحوّلًا تاريخيًا في علاقة الدولة التركية مع الأكراد، ويمنح الحكومة في أنقرة فرصة نادرة لإطلاق إصلاحات يمكن أن تمهد لإنهاء واحد من أطول النزاعات في الشرق الأوسط.

فالحزب، الذي بدأ تمرده المسلح عام 1984 وأودى الصراع معه بحياة أكثر من 40 ألف شخص، يطالب اليوم ببيئة قانونية تمكّنه من المشاركة السياسية المشروعة بدل المواجهة المسلحة.

وتؤكد قيادة الحزب أن المرحلة الجديدة تتطلب تعديلات تشريعية ودستورية تضمن الحقوق الثقافية واللغوية للأكراد، وتفتح الباب أمام الأحزاب الكردية للعمل بحرية ضمن الإطار الديمقراطي.

حذر تركي وتحديات سياسية

أبدت الحكومة التركية حذرًا واضحًا في التعاطي مع الخطوة. فبينما رحّب مسؤولون بقرار الانسحاب واعتبروه ثمرة جهود مكافحة الإرهاب، إلا أنهم شددوا على ضرورة إثبات نيات الحزب ميدانيًا قبل أي تغيير في المقاربة الأمنية.

وتدرك السلطات التركية أن أي اندماج سياسي للحزب يحتاج إلى توافق داخلي دقيق، خاصة في ظل المعارضة الشرسة من القوميين الأتراك الذين يرون في حزب العمال تهديدًا للأمن القومي. لذلك، فإن إدارة المرحلة الانتقالية ستتطلب توازنًا بين مكاسب السلام ومخاوف الشارع التركي من عودة التوتر.

ويفتح الانسحاب الكامل للمقاتلين من تركيا الباب لإجراءات ميدانية حساسة، مثل مراقبة تنفيذ الانسحاب وضمان عدم وقوع انتهاكات أو اشتباكات متفرقة.

كما أن عودة آلاف المقاتلين إلى شمال العراق ستفرض واقعًا جديدًا في تلك المنطقة، التي تشهد أصلًا وجودًا عسكريًا تركيًا مكثفًا منذ سنوات.
ويرى مراقبون أن نجاح العملية يعتمد على وجود آليات تحقق محايدة، وربما دور إشرافي من منظمات دولية أو أطراف إقليمية، لضمان التزام الطرفين ومنع أي طرف ثالث من تقويض العملية.

أبعاد إقليمية عميقة

للانسحاب أيضًا أبعاد تتجاوز حدود تركيا. ففي سوريا، حيث تدعم الولايات المتحدة فصائل كردية تُعتبر امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، قد يؤدي أي اتفاق دائم في تركيا إلى إعادة رسم خريطة النفوذ شمال سوريا، وربما يفتح نافذة لتفاهمات أوسع مع واشنطن.

كما أن العراق سيواجه تحديًا في إدارة وجود آلاف المقاتلين داخل أراضيه، ما قد يدفعه للتنسيق الوثيق مع أنقرة لتفادي توترات جديدة.

ورغم الرمزية الكبيرة للانسحاب، إلا أن استدامة السلام ستعتمد على سرعة الحكومة في ترجمة وعود الإصلاح إلى خطوات ملموسة، مثل إصدار قوانين تتيح المشاركة السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية سياسية، وتنمية المناطق الكردية التي ظلت مهمّشة لعقود.

 

أما حزب العمال الكردستاني، فعليه أن يبرهن على تحوّله من حركة مسلحة إلى كيان سياسي منضبط، قادر على تمثيل قاعدته الشعبية دون العودة إلى السلاح.

وبالمحصلة فإن ما يجري اليوم قد يشكّل بداية نهاية أطول حرب داخلية في تاريخ تركيا الحديث. لكن بين الإعلان والتنفيذ، تقف طريق طويلة من الشكوك والحسابات السياسية والأمنية.

فإذا التزمت الأطراف بوعودها، قد تدخل تركيا مرحلة مصالحة وطنية شاملة تُنهي إرث الدم والاقتتال؛ أما إذا فشلت، فستعود البلاد إلى دوامة صراع يعرف الجميع كلفته ولا أحد يرغب بتكرارها.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.