رغم إعلانها عن عجز في ميزانيتها يبلغ 65.3 مليار دولار هذا العام، تواصل السعودية المضي بقوة في استراتيجيتها الاستثمارية الجريئة، بقيادة صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، لتأكيد مكانتها كأحد أبرز اللاعبين في الاقتصاد العالمي.
فبعد يوم واحد فقط من كشف الصندوق عن دخوله في أكبر صفقة استحواذ بالرافعة المالية في التاريخ، إلى جانب شركتي سيلفر ليك وأفينيتي بارتنرز، بقيمة 55 مليار دولار للاستحواذ على شركة الألعاب الأمريكية العملاقة “إلكترونيك آرتس” (EA)، أعلنت الرياض عن عجز أعمق في موازنتها العامة.
وتُعد الصفقة، التي تُقدّر قيمة التمويل الرأسمالي فيها بـ 36 مليار دولار، نقطة تحول جديدة في طموح السعودية للتحول إلى مركز عالمي لصناعة الترفيه والألعاب الإلكترونية.
ووفقاً لوكالة بلومبيرغ، فإن صندوق الاستثمارات العامة سيتحمّل النصيب الأكبر من التمويل، ما يمنحه السيطرة على الشركة الأمريكية التي تُعد من أكبر مطوري ألعاب الفيديو في العالم.
وتأتي هذه الخطوة في وقت يُقدّر فيه عجز الموازنة بنحو 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 65.3 مليار دولار في اقتصاد يبلغ حجمه حوالي 1.1 تريليون دولار.
ورغم ذلك، يبدو أن السعودية ماضية في سياستها التوسعية، مستفيدة من احتياطياتها المالية الضخمة وقدرتها على الوصول إلى أسواق الدين العالمية بشروط ميسّرة.
الألعاب الإلكترونية: رهان استراتيجي طويل الأمد
تنسجم هذه الصفقة مع رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الهادفة إلى تنويع الاقتصاد السعودي بعيداً عن النفط، وجعل قطاع الألعاب والترفيه الرقمي ركيزة أساسية في التحول الاقتصادي ضمن رؤية 2030.
ويمتلك صندوق الاستثمارات العامة بالفعل حصصاً في شركات كبرى مثل نينتندو وناشر لعبة بوكيمون غو، وخصص نحو 30 مليار دولار للاستثمار في قطاع الألعاب الإلكترونية خلال العقدين المقبلين.
ويرى محللون أن هذا التوجه لا يستهدف فقط تعزيز النفوذ العالمي للمملكة في قطاع الترفيه، بل أيضاً خلق عشرات الآلاف من الوظائف للشباب السعودي في مجالات التطوير الرقمي، التصميم، والبرمجة، وهو ما ينسجم مع مساعي الدولة لخلق اقتصاد قائم على المعرفة.
ضغوط اقتصادية متصاعدة
لكن التوسع الاستثماري يأتي في وقت تشهد فيه المالية العامة السعودية تحديات متزايدة. فقد أدى انخفاض أسعار النفط بنحو 12% منذ مطلع العام إلى تراجع الإيرادات.
إذ هبط سعر خام برنت إلى ما دون 66 دولاراً للبرميل، في حين تشير تقديرات “بلومبيرغ إيكونوميكس” إلى أن سعر التعادل للموازنة السعودية يبلغ نحو 94 دولاراً للبرميل، ويرتفع إلى 111 دولاراً عند احتساب الإنفاق المحلي للصندوق السيادي.
إلى جانب ذلك، تواجه مشاريع عملاقة مثل نيوم وذا لاين ضغوطاً تمويلية وتأخيرات إنشائية، ما يفرض على الحكومة مفاضلات مالية دقيقة بين دعم المشاريع التنموية والحفاظ على استقرار الموازنة العامة.
استمرار سياسة الاقتراض
على الرغم من العجز، تواصل السعودية الاقتراض بنشاط من الأسواق الدولية. فقد جمعت هذا العام نحو 20 مليار دولار من إصدارات السندات الدولارية والأوروبية، وتستعد لإطلاق أول سندات خضراء مقوّمة باليورو، في إطار سعيها لتنويع أدوات التمويل وتوسيع قاعدة المستثمرين العالميين.
ويرى إدوارد بيل، كبير الاقتصاديين في بنك الإمارات دبي الوطني، أن مستويات الدين السعودي “لا تزال منخفضة نسبياً مقارنة بحجم الاقتصاد”، ما يمنح المملكة مساحة مالية آمنة لمواصلة الاقتراض والاستثمار في المشاريع ذات العائد الاستراتيجي.
ويواصل صندوق الاستثمارات العامة أداء دور محوري في تمويل المشروعات العملاقة ودعم النمو المحلي. فوفق بيانات بلومبيرغ، أنفق الصندوق نحو 57 مليار دولار العام الماضي، ومن المتوقع أن يضخ 40 مليار دولار سنوياً خلال الأعوام المقبلة في مشاريع محلية وإقليمية.
ويرى أمين ماتي، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى السعودية، أن هذه السياسة الاستثمارية “تُسهم في الحفاظ على نمو اقتصادي قوي وإيجابي مقارنة بمعظم الاقتصادات العالمية”، حتى مع استمرار العجز المالي.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى أن السعودية تراهن على تحويل الاستثمارات الحالية إلى أصول تولّد إيرادات مستقبلية، معتبرين أن المخاطر المالية تبقى “محسوبة” في ظل امتلاك المملكة احتياطيات نقدية ضخمة وقدرتها على الوصول إلى التمويل العالمي بتكلفة منخفضة نسبياً.
وتُظهر التحركات الأخيرة أن الرياض لا ترى في العجز المالي عائقاً أمام توسعها الاقتصادي، بل تعتبره ثمناً ضرورياً لمراكمة الأصول المستقبلية وتحقيق التحول الهيكلي للاقتصاد.
وفي وقت تتراجع فيه أسعار النفط وتتصاعد تحديات التمويل، تراهن المملكة على أن الاستثمار الجريء هو مفتاح التحول — وأن المستقبل، كما يبدو من استراتيجية صندوق الاستثمارات العامة، لن يُبنى على الحذر المالي، بل على الجرأة المحسوبة في اقتناص الفرص العالمية.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=72885