دراسة: إيران تعيد التموضع إقليميا ودوليا معتمدة على استراتيجية دفاع تكتيكي

بعد عامين من صدمات سياسية وعسكرية متلاحقة في الشرق الأوسط، تبرز إيران اليوم كدولة تعيد التموضع لا الانكفاء، معتمدة على استراتيجية دفاع تكتيكي وانتظار مدروس يوازن بين حماية المكتسبات وتفادي المغامرات.

وبحسب دراسة نشرها مركز “البيت الخليجي للدراسات والنشر”، تعمل طهران على إعادة ترتيب أوراقها بعد سلسلة هزّات أثّرت في قدراتها ونفوذها الإقليمي. فقد كشفت الحرب في غزة قبل عامين، وما تبعها من مواجهة مباشرة محدودة مع إسرائيل في يونيو/حزيران الماضي، حدود قدرة إيران على توظيف حلفائها الإقليميين كأدوات تغيير حاسم.

وفي المقابل، برزت الولايات المتحدة كقوة قادرة على ضبط إيقاع الانسداد الإقليمي وفرض البدائل السياسية. إعلان الهدنة في غزة وتبادل الأسرى برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب عكس هذه الحقيقة، وأعاد تعريف أولويات إيران الاستراتيجية.

ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979، شكّل دعم القضية الفلسطينية ركيزة ثابتة في السياسة الخارجية الإيرانية. زيارة ياسر عرفات لطهران بعد أسبوع من نجاح الثورة رسّخت رمزية فلسطين في الوجدان الإيراني، لتتحول إلى أحد أعمدة الشرعية الثورية.

وعلى الرغم من التحولات الإقليمية، ظلّ الدعم المالي والعسكري لحركات المقاومة قائمًا، بمتوسط سنوي يناهز 100 مليون دولار بحسب تقديرات أميركية. ومع ذلك، تعاملت طهران دائمًا مع هذا الملف بحذر، واصفة دعمها بأنه “استشاري” لتجنّب الصدام المباشر مع القوى الكبرى.

غير أن تجربة الحرب الأخيرة في غزة أظهرت لطهران محدودية أدواتها؛ إذ قبلت حركة حماس، رغم الدعم الإيراني، خطة التهدئة الأميركية الشاملة، ما أكد لطهران أن القرار الأميركي يظل العامل الحاسم في تحديد إيقاع الصراع ونهايته.

وفي سوريا ولبنان، يتجلى التراجع الإيراني بوضوح. لم تعد دمشق قاعدة آمنة للإمداد والتموضع، فيما تراجعت قدرات حزب الله العسكرية بفعل الضغوط الاقتصادية والسياسية.

أما في العراق، فقد خضعت الشبكات المتحالفة مع إيران لرقابة صارمة حدّت من قدرتها على الحركة والتأثير، لتفقد طهران جزءًا مهمًا من عمقها الاستراتيجي.

ويشكل الملف النووي اليوم أحد أهم أدوات “الضبط الذاتي” الإيراني. ومع انهيار الاتفاق النووي وتفعيل آلية “الزناد”، عادت إيران رسميًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما أعاد فرض العقوبات الاقتصادية وقيّد برنامجها النووي والصاروخي.

ورغم ذلك، تبنّت طهران نهج “التجميد المحسوب” للبرنامج النووي، أي تجميده عمليًا لتفادي الاستفزاز، مع الحفاظ على المعرفة التقنية والمخزون النووي كورقة تفاوض مستقبلية.

لكن البرنامج الصاروخي يظلّ خطًا أحمر بالنسبة لإيران. فقد أظهرت التجارب الأخيرة قدرة الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية على التأثير الميداني وإرباك خصومها، ما عزّز تمسك القيادة بهذا البرنامج باعتباره الركيزة الأهم في منظومة الردع الإقليمي. وتعمل طهران على تطوير دقته ومداه دون الانزلاق إلى سباق نووي أو مواجهة مفتوحة.

اقتصاديًا، تواجه إيران ضغوطًا هائلة بفعل العقوبات الأميركية والأوروبية التي استهدفت عصب اقتصادها النفطي والمصرفي، ما أدّى إلى تراجع كبير في الإيرادات وازدياد الضغوط الاجتماعية.

وردًّا على ذلك، تبنّت الحكومة سياسة “الاستقرار الوقائي”، عبر دعم محدود للفئات الأشد تضررًا، ومنع أي اضطرابات داخلية يمكن أن تتحول إلى ورقة ضغط دولية.

حتى انتهاء ولاية ترامب الحالية، ستستمر طهران في سياسة “التجميد المنظّم” على ثلاثة مستويات:

تجميد التحركات الإقليمية العلنية مع الإبقاء على النفوذ غير المباشر في سوريا ولبنان والعراق وغزة.

تجميد التصعيد النووي مع الحفاظ على القدرة التقنية كورقة مساومة.

تعزيز الردع الصاروخي وتطوير الدقة دون تجاوز العتبة الاستفزازية.

في غزة، ستواصل إيران دعمها غير المباشر لحماس ضمن معادلة “الحفاظ على المكتسبات وتقليل المخاطر”، بينما تتجه في سوريا إلى التفاهم مع النظام الجديد. أما في لبنان، فستعتمد سياسة ضبط حزب الله لتفادي مواجهة مع إسرائيل، في حين يبقى العراق محور النفوذ الحذر.

ثلاثة سيناريوهات تلوح في الأفق: الأول هو التجميد المتوازن، وهو المرجّح؛ الثاني التصعيد المحدود ردًّا على ضربة محتملة؛ الثالث، الأقل احتمالًا، انهيار التوازن الداخلي أو تصعيد خارجي يقود إلى مواجهة مفتوحة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.