تناولت دراسة تحليلة صدرت عن مركز “البيت الخليجي للدراسات والنشر” التساؤلات إزاء التزام الحرس الثوري الإيراني بالمصالحة مع المملكة العربية السعودية.
وفي 10 مارس الماضي تفاجأ الجميع بقيام خصمين إقليميين، الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية بتوقيع اتفاق مصالحة في العاصمة الصينية بكين، في محاولة لإنهاء سنوات طويلة من الصراع بين البلدين المتنافسين.
وبعد ٥ أيام من المحادثات في بكين، قام كلٌ من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، بتوقيع الاتفاقية التي تحتوي على العديد من البنود وعلى رأسها “احترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”.
والبند المذكور كان اتهاماَ يتبادله الطرفان في السنوات الأخيرة، كما اتفق البلدان على استعادة العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع دام سبع سنوات وإعادة فتح سفارتيهما.
كان من اللافت للنظر، قيام علي شمخاني بتوقيع الاتفاقية مع الرياض وغياب وزارة الخارجية الإيرانية من المشهد، يمكن تفسير الأمر بشكل مبدئي بأن الخلافات بين الرياض وطهران خلافات أمنية في المقام الأول، لذا، كان لابد في البداية من تنظيم هذه الخلافات ووضع إطار التعاون بين الجانبين، ومن ثم يأتي دور وزارة الخارجية في كلا البلدين.
الاعتماد على شمخاني لإنجاز الاتفاق الإيراني السعودي، وهو مسؤول مقرب من مكتب القائد، آية الله علي خامنئي، وهو الجناح المنافس لصقور الحرس الثوري الإيراني وأنصارهم من المتشددين في إدارة ما يعرف بالحكومة الموازية أو الدولة العميقة في إيران، يكشف عن رغبة علي خامنئي نفسه في استعادة سيطرة مكتبه على السياسة الخارجية لإيران.
وذلك بعد سنوات من سيطرة قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني على هذا الملف، خاصة في سنوات حياة الجنرال القوي قاسم سليماني.
الأمر الثاني هو وجود معارضة حتى وأن لم تكن قوية بشكل كبير من جانب معسكر الحرس الثوري لاستعادة العلاقات مع الرياض.
وهو ما يحيل إلى التساؤل عن الدور الذي سيلعبه الحرس الثوري الإيراني في الاتفاق السعودي الإيراني، وما إذا كان من المحتمل أن يكون للحرس الثوري دور في عرقلة تطوير هذا الاتفاق.
صراع الدولة العميقة
يكشف إشراف مرشد الثورة السيد علي خامنئي على انجاز الاتفاق السعودي الإيراني عن رغبة قوية من جانبه في استعادة دور مكتب القائد في السياسة الخارجية.
بالإضافة إلى إرسال رسالة طمأنة إلى الرياض بأن الاتفاق لن يتغير بتغيير الحكومات، خاصة وأن هذا الأمر كان مطلباً سعودياً، فالقيادة السعودية تعلم جيداً أن دور الحكومات الإيرانية في هذه القرارات المهمة ثانوي وغير فعال في كثير من الأحيان، وأنه من الأفضل التوصل إلى الاتفاق مع أحد مؤسسات الدولة العميقة في طهران.
لكن الاعتماد على شمخاني أثار من جديد الصراع بين مؤسسات الدولة العميقة التي بحسب تقاسم المهام والملفات يمكن تقسيمها إلى مكتب القائد وصقور الحرس الثوري وأنصاره من المتشددين، خاصة بعد الترحيب البارد من قبل وسائل الإعلام ومراكز الفكر والساسة المقربين من الحرس الثوري، بشأن الاتفاق.
منذ سنوات تم تقاسم المهام بين مؤسسات الدولة العميقة على النحو التالي: البرنامج النووي ضمن صلاحيات مكتب القائد، البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية تذهب لصالح الحرس الثوري، لكن مع توسع دور الأخير في السياسة الإيرانية، زاد الصراع بينه وبين مكتب القائد.
وعندما تم التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وحكومة الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، بعد محادثات سرية في سلطنة عمان في عام 2013 والتوصل إلى اتفاق نووي مبدئي، أظهر الحرس الثوري عدم موافقته على هذا الأمر الذي رأى فيه تنازلًا صريحًا عن ما وصلت إليه البلاد من تقدم مقابل رفع حفنة من العقوبات.
وذلك مع إصرار بيت القائد على استكمال الاتفاق النووي مع القوى الغربية ونجاحه في السيطرة على تصويت النواب في البرلمان لصالح التوقيع على الاتفاق النووي، قام الحرس الثوري بعد التوقيع مباشرة بإجراء تجربة صاروخية باستخدام صواريخ كُتب عليها عبارات مثل “الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل”، ما أحرج حكومة حسن روحاني أمام الإدارة الأمريكية برئاسة باراك أوباما آنذاك.
يمكن التكهن بأن الحرس الثوري وأنصاره قد يلجؤون إلى مثل هذه الاستفزازات مع السعودية، خاصة وأن قادة الحرس الثوري دائمًا ما كانوا منتقدين بشدة للسعودية.
خاصة وأن الاتفاق تم بعيداً عن نفوذ مؤسسة الحرس الثوري ما يخلق لديها اعتقادًا بأن هناك محاولات من بيت القائد لتهميش دورها في السياسية الخارجية.
لكن قبل التكهن باحتمال قيام مؤسسة الحرس الثوري بالسعي لإفشال الاتفاق السعودي الإيراني، يجب أن نحاول فهم تأثير هذا الاتفاق على “محور المقاومة” أو مجموعة الوكلاء الإيرانيين التي يقودها الحرس الثوري في المنطقة.
وذلك بناءً على مدى تأثير الاتفاق السعودي الإيراني على هذه المجموعات سيكون من السهل التنبؤ بدور الحرس الثوري مستقبلاً.
يشكل اليمن أحد أهم مناطق الصراع التي دفعت السعودية للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إيران، لسنوات مضت كانت الأزمة اليمنية وحدة القياس لتصعيد أو خفض مستوى التوتر بين طهران والرياض.
بالنسبة للإيرانيين يشكل اليمن عمقًا استراتيجيًا على الحدود السعودية، ما يجعله خطاً أحمرًا لكلا البلدين في قواعد الاشتباك والصراع بينهما. دعمت طهران الحوثيين في حربها بالوكالة مع الرياض.
الآن وبعد الاتفاق الإيراني السعودي، تتجه الأنظار إلى اليمن ودور الحرس الثوري الذي من المفترض أن يتوقف عن تسليح الحوثيين بل وتشجيعهم على الدخول في تسوية نهائية للأزمة اليمنية.
صحيح أن اتفاق الرياض وطهران كان له بعض الآثار الإيجابية على الأزمة اليمنية، من خلال اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل السجناء بين الحوثيين والحكومة المدعومة من الرياض، وتعتبر هذه الخطوات المرحلة الأولى في خارطة طريق محتملة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية.
لكن هذا لا يعني، حتى الآن على الأقل، إنهاء دعم الحرس الثوري للحوثيين.
يعتقد الحرس الثوري أن اليمنيين هم من يقررون مستقبل البلاد، لكن هذا لا يعني أنه سيتخلى عنهم سواءً اختاروا السلام أو استكمال الحرب، لأنهم في النهاية حليف مهم وأداة ضغط لا يمكن التخلي عنها بسهولة.
من المتوقع أن تكون الأزمة اليمنية الاختبار الأهم للتثبت من موقف الحرس الثوري ومدى رغبته في إكمال الاتفاق الإيراني السعودي والحرص على إنجاحه.
من جهة أخرى، إن إظهار حسن نية السعودية في اليمن هو الأمر الذي ينتظرهُ قادة الحرس الثوري لحسم قرارهم في التعامل الإيجابي مع هذا الاتفاق.
من جهة أخرى يأتي الاتفاق السعودي الإيراني بعد تحقيق طهران لمكاسب كبيرة في الحرب السورية.
مضى ثلاث سنوات على أطول اتفاق لوقف إطلاق النار في سورية وسيطرة الرئيس بشار الأسد على أجزاء كبيرة من البلاد بفضل مساعدة كل من إيران وروسيا، يستثنى من ذلك مناطق المعارضة المدعومة من تركيا والأكراد المدعومين من الولايات المتحدة، كما يأتي الاتفاق السعودي الإيراني بالتزامن مع تطبيع عربي واسع النطاق مع سورية.
ينظر الحرس الثوري إلى سورية باعتبارها ركناً أساسياً في محور المقاومة، يعلم قادة الحرس أن النفوذ الإيراني في سورية أكبر من أن يواجه أزمة من وراء هذا الاتفاق أو التطبيع العربي مع دمشق.
بل يمكن النظر إلى عودة سورية إلى محيطها العربي كفرصة لمساعدة دمشق على حل مشاكلها الاقتصادية وزيادة استقرار حكومة بشار الأسد، ما يساهم في نجاح الحرس الثوري في جني الثمار الاقتصادية المرتقبة بعد سنوات طويلة من الدعم المالي والعسكري لحكومة دمشق.
بموازاة ذلك يلعب لبنان دوراً حاسماً في السياسة الخارجية الإيرانية ويمثل اهمية استراتيجية وأيديولوجية للحرس الثوري بشكل خاص.
منذ الثمانينات اعتبر الحرس الثوري لبنان النقطة الأهم والرئيسية لتحقيق مشروع مد الهيمنة والتوسع الإقليمي لإيران، لذلك، لن يسمح قادة الحرس الثوري بأي شكل من الأشكال بأن يُوثر الاتفاق السعودي الإيراني على ثبات النفوذ الإيراني في لبنان.
حتى الآن، لم ينتج عن الاتفاق أي آثار إيجابية ملحوظة على الأزمة اللبنانية، سواء السياسية أو الاقتصادية منها.
لكن حتى وأن حدث عكس ذلك، من غير المتوقع أن يقبل الحرس الثوري بأن يؤثر أي اتفاق طارئ مع الرياض بخصوص لبنان، على قوة حزب الله الحليف الأساسي والرئيسي لمحور المقاومة.
وبالنسبة للعراق الذي يضم أكبر شبكة من وكلاء إيران في المنطقة، يبدو أن الاتفاق السعودي الإيراني يمثل تهديدًا حقيقيًا لنفوذ الحرس الثوري هناك، خاصة وأن النخبة الشيعية الحاكمة في العراق لا تتمتع بعلاقات جيدة مع السعودية.
من جهة أخرى، لا تزال النخب السُنية وعلاقاتها الجيدة مع الرياض وأبوظبي تحت سيطرة نفوذ الحرس الثوري الذي لا يبدو مستعداً للتخلي عن سياسته طويلة الأمد في العراق، والسعودية تُدرك هذا الأمر جيداً.
في المحصلة، حتى إن سلمنا بأن الاتفاق السعودي الإيراني لا يبدو أنه يلقى قبولاً لدى مؤسسة الحرس الثوري، لا يمكن تجاوز أن الاتفاق تم بموافقة ومباركة القائد الأعلى علي خامنئي.
لن يكون من السهل على قادة الحرس الثوري مواجهة إرادة القائد لكن هذا بالتوازي، لا يضمن تماماً قبول الحرس الثوري بأن يغير هذا الاتفاق من خططه الاقليمية حتى وأن كان تغيرًا طفيفًا، أو أنه لا يمكن القدرة على تعكير أجواء هذه المصالحة.
في السياق ذاته، يجب الأخذ في عين الاعتبار تقدم خامنئي في العمر واستعداد الجهات الفاعلة في إيران لاختيار خليفته، من الممكن حينها لجميع الخطط والاتفاقيات أن تتغير.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=63367