وول ستريت جورنال: المرتزقة أكثر الوظائف طلبا في عالم لا تتوقف فيه الحرب

يعود المرتزقة إلى الواجهة بقوة، حيث يقاتلون على الخطوط الأمامية في أوكرانيا، ويملؤون ثكنات ممالك الخليج، ويشاركون في الحروب الأهلية في إفريقيا، وتُعد كولومبيا، التي أنهكتها عقود من الصراع، من أكبر المصادر للجنود المستأجرين.

قاتل جوني بينيا ضد المتمردين في أدغال بلاده لمدة عقد، لكن المعارك القريبة والعنيفة التي خاضها هناك بدت وكأنها إجازة مقارنة بفراره المذعور من قصف المدفعية الروسية بعد أن تطوع للانضمام إلى الجيش الأوكراني.

قال بينيا، البالغ من العمر أربعين عامًا، مستذكرًا تجربته: “لم أكن أعرف إن كنت سأعيش أم أموت”.

واجه بينيا تحديات أخرى مثل اللغة الأجنبية، والحروف الأبجدية الغريبة، ودرجات الحرارة المتجمدة التي حلت محل الحرارة الاستوائية التي اعتاد عليها، ومع ذلك، لا يرى بينيا أي بديل عن حياة القتال، وقال بينما كان يستريح في بلد آخر: “الحرب هي الحرفة الوحيدة التي أعرفها”.

يُعد مقاتلون مثل بينيا جزءًا من سوق متنامٍ للمحاربين القدامى من الدول الفقيرة الذين يسعون وراء الاحر، لكن في هذه الأيام، أصبح “راتب القتال” حقيقيًا، حيث اعتاد معظم المرتزقة على معارك منخفضة الحدة أو متقطعة، مثل ملاحقة مهربي المخدرات والبشر.

في المقابل، باتت المعارك في أوكرانيا والشرق الأوسط وإفريقيا تشتعل بضراوة غير مسبوقة منذ عقود، وقُتل مقاتلون كولومبيون استأجرهم وسطاء في الإمارات العام الماضي أثناء قتالهم لصالح قوات متمردة ضد الحكومة السودانية، ورغم المخاطر، لم يمنعهم ذلك من الاستمرار في الانضمام.

ساعد تدفق المحاربين القادمين من صراعات بعيدة في إبقاء الحرب مشتعلة على الخطوط الأمامية في أوكرانيا، كما أن وصول المتطوعين الأجانب حوّل الخنادق إلى خليط من اللغات الأجنبية، حيث تقول أوكرانيا إن عشرين ألف جندي دولي انضموا إلى صفوفها، وجاء هؤلاء من منطقة القوقاز القريبة، ومن أماكن بعيدة مثل شبه القارة الهندية، وشرق آسيا، وأمريكا الجنوبية.

وتشمل قائمة المجندين أرجنتينيين سبق لهم الانتشار في هايتي، وبرازيليين قاتلوا ضد مهربي المخدرات، وجزائريين وكينيين خاضوا معارك ضد تنظيم القاعدة في إفريقيا، وفقًا لمقابلات وملفات على وسائل التواصل الاجتماعي.

في وحدة بينيا نفسها، ولقي جندي سابق في الجيش التايواني، الذي يواجه تهديدًا بالغزو من الصين، مصرعه في أكتوبر 2022، بحسب الحكومة في تايبيه.

بعض المرتزقة مدمنون على الأدرينالين، بينما يُدفع آخرون بنزعة مثالية. قال بينيا إن العديد من زملائه يريدون دعم “البلد الذي يحتاج حقًا إلى المساعدة” ضد روسيا، وأضاف أنه “لو كان المرتزقة يبحثون فقط عن المال، لذهبوا إلى المكسيك وانضموا إلى عصابات المخدرات”.

تدفق آلاف المتطوعين إلى أوكرانيا في الأيام الأولى للحرب، بمن فيهم محاربون قدامى من الولايات المتحدة وأوروبا، للقتال من أجل الديمقراطية أو بحثًا عن إثارة المعركة، لكن أعداد الغربيين تضاءلت مع تحول الحرب إلى استنزاف طويل الأمد.

ويختلف معظم المرتزقة عن الشركات العسكرية الخاصة مثل فاغنر الروسية، والجنود الكوريين الشماليين الذين أرسلتهم بيونغ يانغ مؤخرًا للقتال مع روسيا ضد أوكرانيا، وبلاك ووتر الأمريكية التي أسسها الملياردير المرتزق إريك برينس، فهذه القوى تعمل إلى حد ما كأذرع تمتد لخدمة سياسات حكوماتها الخارجية، ويتم نشرها لخدمة المصالح الوطنية.

وجندت موسكو أيضًا عشرات الآلاف من الجنود الأجانب المستقلين للقتال في أوكرانيا، من بينهم يمنيون تم تجنيدهم من قبل المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، وجنود نيباليون سبق أن قاتلوا المتمردين الماويين في بلادهم، وكوبيون استدرجوا بوعد الحصول على جوازات سفر روسية ورواتب عالية.

كان المرتزقة شائعين في جميع أنحاء أوروبا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية وحتى صعود الدولة القومية الحديثة في القرن السابع عشر.

وتقلصت أعداد المقاتلين المرتزقة في العصر الحديث إلى حد كبير، وحل محلهم الجنود المجندون والمحترفون، لكنهم لم يختفوا تمامًا.

قاتل البعض بدافع الأيديولوجيا في الحرب الأهلية الإسبانية، لكن معظمهم كانوا جنودًا سابقين يسعون إلى كسب المال خلال الحرب الباردة، وتأسست شركة “ووتش غارد إنترناشونال”، إحدى أوائل الشركات العسكرية الخاصة، على يد محاربين قدامى في القوات الخاصة البريطانية عام 1965، واليوم، أدى تزايد الصراعات إلى ارتفاع الطلب على الجنود المستأجرين.

وأصبحت كولومبيا، التي تمتلك عددًا كبيرًا من المحاربين القدامى بسبب عقود من الحروب ضد المخدرات، منجم ذهب لمجندي المرتزقة، لكن تزايد أعداد القتلى من مواطنيها في الخارج والتورط في تعقيدات دبلوماسية أصبح يمثل مشكلة كبيرة للرئيس اليساري غوستافو بيترو، مما دفع حكومته للعمل على سن قانون يحظر على الكولومبيين العمل كمرتزقة.

بالنسبة للكثيرين، الأمر مجرد وظيفة—رغم المخاطر في ساحة المعركة وخارجها، وقالت شقيقة الجندي الكولومبي خوسيه أرون ميدينا إنه التحق بالقتال في أوكرانيا ليدفع لوالديه تكاليف مغادرة مزرعتهما الواقعة في منطقة عنيفة من البلاد.

عاد ميدينا وأحد زملائه، الذي تدرب مع جوني بينيا، إلى الوطن عبر فنزويلا في الصيف الماضي، لكن السلطات في الدولة الصديقة لروسيا اعتقلتهما أثناء تبديل الطائرات، وتم ترحيلهما إلى روسيا، حيث يقبعان الآن في السجن.

ونشرت موسكو مقاطع فيديو لهما يزعمان فيها تعرضهما لسوء المعاملة على يد الأوكرانيين، ويعبران عن ندمهما على القتال هناك، ويحذران الآخرين من ارتكاب نفس الخطأ.

وحارب بينيا لمدة 12 عامًا ضد المتمردين الماركسيين في أدغال كولومبيا، وتقاعد من الجيش في عام 2014، وحاول الانضمام إلى كولومبيين آخرين تقدموا لشغل وظيفة مرتزقة جديدة.

بعد اجتيازه المرحلة الأولى من الاختبارات، خضع لتدريب استمر ثلاثة أشهر، لكن بعض الرجال في مجموعته دفعوا رشوة لطبيب لاجتياز الفحص الطبي، واكتشف المجند الأمر ورفضهم جميعًا، وفقًا لما قاله بينيا.

على مدار ما يقرب من عقد، عمل كحارس أمني لرجال أعمال أثرياء، لكنه لم يتخل عن البحث عن عمل في الخارج.

في منتصف عام 2023، أثناء تصفحه مجموعة على واتساب للمحاربين الكولومبيين القدامى، وجد عرض عمل: الجيش الأوكراني كان يبحث عن مقاتلين ذوي خبرة، براتب 3,300 دولار شهريًا أثناء نشرهم في القتال، مقارنةً بـ 500 دولار فقط لضابط كولومبي فقرر الانضمام.

كانت العقبة الأولى هي مغادرة كولومبيا، حيث تراقب الحكومة مغادرة المحاربين القدامى منذ أن ثبت تورط عشرين منهم في اغتيال رئيس هايتي عام 2021، كما تعارض الحكومة الكولومبية تجنيد المقاتلين للقتال في أوكرانيا.

قال بينيا: “أخبرنا السلطات أننا ذاهبون كسياح إلى بولندا”.

وتحسبًا لأي استجواب عند وصوله إلى مدريد، حمل معه رسالة رسمية من أوكرانيا تثبت تجنيده، وطار من إسبانيا إلى وارسو، ثم استقل قطارًا إلى الحدود الشرقية لبولندا، وعبر سيرًا على الأقدام إلى أوكرانيا، وقال: “تحققوا من جواز سفري، ثم دخلت إلى الحرب”.

وضعت أوكرانيا بينيا في قيادة وحدة استطلاع مكونة من ثلاثين رجلاً، وعينت لهم مترجمًا، رغم أن معظم التواصل يتم عبر تطبيقات الترجمة على الهواتف الذكية، كما قال.

تم إرسال الكولومبيين للتدريب على المهارات العسكرية الأساسية، مثل الإسعافات الأولية، في حقل دوار الشمس على بعد أربعين ميلًا من الجبهة، وفجأة، أصبحت ساحة التدريب ساحة معركة.

حلّقت طائرة مسيرة فوقهم، افترض بينيا أنها أوكرانية، لكنها كانت روسية، وبدأت بإلقاء القنابل اليدوية على بعد ستين قدمًا منهم، ثم تبع ذلك قصف مدفعي مكثف.

قال بينيا: “شعرت فعليًا بموجات الانفجارات، الأرض تهتز، والمنازل تتمايل”، وأضاف: “لم أختبر شيئًا كهذا في حياتي”.

فر المقاتلون الكولومبيون من الحقل المفتوح دون أي وسائل دفاع، وقال بينيا: “لم يكن لدينا أي شيء، ولا حتى سترة واقية من الرصاص، فقط دفتر ملاحظات وحافظة أقلام”.

أثناء هروبه بحثًا عن غطاء، لاحظ مزارعين أوكرانيين يحرثون الأرض وكأن شيئًا لم يحدث، وأضاف: “الأمر الأكثر حزنًا هو أن هناك أشخاصًا في أوكرانيا اعتادوا العيش بهذه الطريقة”.

بعد أسابيع، نُقل بينيا ورجاله إلى مدرسة مهجورة في بلدة لا يتذكر اسمها، وقال: “كلها أسماء غريبة.”

في أحد الأيام، سمع انفجارًا هائلًا، وتحطمت النوافذ وتناثرت شظايا الزجاج. اعتقد أنها غارة جوية روسية، لكنه اكتشف لاحقًا أن مقاتلة أوكرانية كانت تحاول إسقاط طائرة مسيرة روسية كبيرة.

تم إرسال وحدة بينيا بالقرب من خطوط العدو لمراقبة مواقعهم وتوجيه القصف المدفعي، قال: “كان القتال شديدًا لدرجة أنك لا تستطيع البقاء في نفس الموقع لأكثر من يومين”.

في أحد الأيام، أبلغ قائد أوكراني بينيا أن الاتصالات الروسية التي تم اعتراضها تشير إلى احتمال مواجهته لمقاتلين كولومبيين يقاتلون لصالح روسيا، وسأله عن موقفه، رد بينيا: “سنقاتلهم، لأن أي شخص يقف مع روسيا هو العدو، سواء كان من بلدنا أم لا”.

لكن الواقع كان أكثر تعقيدًا، قال بينيا إن أحد زملائه شاهد كولومبيين يقاتلون مع الروس يقفزون إلى خندق أوكراني ويقتلون جنديين بيروفيين بقنابل يدوية.. أضاف بينيا: “لم يستطع فعل أي شيء، كان عليه أن يختبئ”، وغادر الجندي الكولومبي بعد شهر، قائلاً إنه “لا يستطيع تحمل رؤية كولومبيين يقتلون بيروفيين”.

عرض أحد مجندي المرتزقة الكولومبيين، الذي يعمل لصالح عميل إماراتي، وظائف كمشغلي طائرات مسيرة براتب يصل إلى ستة آلاف دولار شهريًا للعمل لصالح أحد أمراء الحرب في ليبيا المدعومين من روسيا، لكن الكولومبيين الذين قبلوا الوظيفة وجدوا أنفسهم في السودان، حيث قُتل بعضهم في نوفمبر أثناء شحن الأسلحة لفصيل في الحرب الأهلية هناك.

وطلبت وزارة الخارجية الكولومبية إعادة جثث 186 جنديًا قتلوا في أوكرانيا، مما يجعل كولومبيا من بين أكبر الخاسرين في صفوف المقاتلين الأجانب في الحرب، مع اعتبار 122 آخرين في عداد المفقودين.

يقول بينيا، وهو كاثوليكي متدين: “أؤمن بالله، لذلك لا أرى الموت على أنه النهاية”، لكنه أضاف أنه إذا نجا ووقّعت أوكرانيا اتفاق سلام، فسيبحث عن معركة جديدة، وقال: “سأحاول الذهاب والقتال في إسرائيل”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.