تعاني ميزانية الكويت من عجز مزمن وكبير. في السنة المالية الجارية 2024-2025 بلغ حجم العجز المتوقع 5636.3 مليون دينار أي 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقال تحليل أصدره مركز البيت الخليجي للدراسات والنشر، إن نسبة العجز في ميزانية الكويت تعد الأعلى في دول مجلس التعاون الخليجي، علماً بأن السنة المالية السابقة سجلت أكثر من أربعة أضعاف العجز الحالي.
وبحسب التحليل فإن للكويت صندوق سيادي عملاق قادر على سد العجز عن طريق السحب منه، كما تتمتع الدولة بسمعة مالية طيبة وتصنيفات ائتمانية جيدة من قبل الوكالات الدولية المتخصصة تمكنها من الاقتراض بسهولة من الداخل والخارج، يضاف إلى ذلك وجود مصادر مالية غير مستغلة كالضرائب.
لكن على الصعيد العملي، تبدو جميع هذه الأبواب مغلقة، فلا يجوز من الناحية القانونية السحب من الصندوق السيادي، كما أن مجلس الأمة كان يرفض تجديد قانون الدين العام ويمنع فرض أية ضريبة جديدة، خاصة ضريبة القيمة المضافة. لذلك لم تجد الحكومة مهربًا من اللجوء إلى الاحتياطي النقدي العام لتغطية العجز المالي.
يرتفع هذا الاحتياطي نتيجة فائض ميزان المدفوعات، وبالعكس ينخفض بسبب عجزه، وهكذا تظهر أهمية هذا الميزان في مالية الدولة.
لا تقتصر العلاقة بين ميزانية الدولة وميزان المدفوعات على الاحتياطي النقدي، بل تشمل أيضاً الإيرادات النفطية التي تشكل 87% من إيرادات ميزانية السنة الحالية. وتتأتى هذه الإيرادات من الصادرات النفطية أي من الميزان التجاري التابع لميزان المدفوعات.
في 2023 (آخر الإحصاءات السنوية الحكومية المتوفرة حالياً) سجل ميزان المدفوعات عجزاً بمبلغ 150.2 مليون دينار. وبالنظر لتلك العلاقة يؤثر هذا العجز تأثيراً سلبياً على ميزانية الدولة.
لكن خطورة عجز ميزان المدفوعات لا تقتصر على ذلك، بل تمتد لتشمل جوانب أخرى ترتبط بالسياسة الاقتصادية. لم ينجم هذا العجز عن زيادة الإنفاق الاستثماري في الخارج، بل ترتب هبوط الصادرات النفطية وتزايد استيراد السلع غير الضرورية وارتفاع عجز حساب الخدمات.
وقد هبط فائض الميزان التجاري بنسبة عالية قدرها 28.7% نتيجة تباطؤ الصادرات النفطية وتزايد الواردات السلعية. لابد إذن من العمل على تحسين الصادرات غير النفطية وتنمية الإنتاج الصناعي المدني والعسكري وتقليص الواردات غير المنتجة. يمكن هنا ملاحظة أن استيراد السيارات يصل إلى حوالي سبع مليارات دولار في العام الواحد.
ويسجل حساب الخدمات عجزاً مزمناً وكبيراً لأسباب عديدة في مقدمتها ضخامة الأموال في السياحة الخارجية التي وصلت إلى أكثر من 14 مليار دولار وأصبحت تمتص ُخمس الصادرات النفطية. لذلك يتعين العمل على تشجيع السياحة الداخلية للأجانب والمواطنين.
وتتطلب دراسة ميزان المدفوعات التطرق إلى تحويلات العمال الأجانب والقروض الخارجية والديون الخارجية والاستثمارات الكويتية في الخارج والاستثمارات الأجنبية في الكويت والتعويضات المالية المترتبة على العراق.
كما يتعين تحليل الاحتياطي النقدي: دوره النقدي والمالي والتجاري، ومكونات الاحتياطي التي تهيمن عليها العملات الأجنبية حيث لم تزدد كمية الذهب النقدي منذ عدة عقود رغم تغير المعطيات الاقتصادية والسياسية في العالم.
وتسعى الدول إلى تحقيق فائض في ميزان المدفوعات بطرق عديدة كزيادة الصادرات السلعية وجذب الاستثمارات الأجنبية وتقليص الواردات.
عندئذ، تتحسن مؤشراتها الاقتصادية وفي مقدمتها ارتفاع الاحتياطي النقدي الذي ُيستخدم لأغراض التوازنات النقدية والمالية كتغطية عجز الميزانية العامة.
لكن لدول مجلس التعاون الخليجي صناديق استثمارية عملاقة تلعب دوراً بارزاً على الصعيدين المحلي والدولي. تتطلب هذه الصناديق السيادية رصد أموال طائلة للقيام بأنشطتها المختلفة.
وعلى هذا الأساس، إذا ارتفعت هذه الأموال المستثمرة في الخارج يزداد جانب المدين في الحساب المالي فيسبب عجزاً في ميزان المدفوعات.
لكن هذا العجز الآني يقود لاحقاً إلى تحسين حساب آخر في الميزان وهو حساب الدخل الأساسي وعلى وجه الخصوص الباب المتعلق بدخل الاستثمار المباشر. عندئذ، لا يقود العجز إلى نتائج سلبية بل إلى العكس.
في 2023 سجل ميزان مدفوعات الكويت عجزاً قدره 150.2 مليون دينار. لماذا حدث هذا العجز وما هي تداعياته وكيف يمكن التصدي له؟
تتطلب الإجابة تحليل جميع مكونات ميزان المدفوعات لأن العجز بسبب زيادة الاستثمارات الخارجية يختلف اختلافاً كلياً عن العجز بسبب ارتفاع الواردات غير الضرورية للتنمية.
لكن المشكلة في الكويت أخطر من هذا التوصيف. فقد هبطت الاستثمارات الخارجية وارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة وكذلك انخفضت تحويلات العمال الأجانب. وبدلاً من أن يقود ذلك إلى زيادة الفائض، حدث العجز في ميزان المدفوعات.
نجم هذا العجز بالدرجة الأولى عن هبوط الصادرات النفطية وزيادة الواردات وتصاعد نفقات مختلف الخدمات.
وتعتمد الكويت اعتماداً أساسياً على الصادرات النفطية بصورة أكبر من درجة اعتماد دول الخليج الأخرى. فقد بلغت الصادرات النفطية الكويتية 92.8% من المجموع الكلي للصادرات.
في حين تهبط النسبة إلى 77.4% في السعودية وإلى 65.2% في عمان ثم إلى 45.1% في البحرين. لذلك وفي حالة تراجع أسعار النفط تتأثر سلبياً جميع الأنشطة الاقتصادية بصورة أكبر في الكويت مقارنة بدول الخليج الأخرى.
ولا يتوقف هذا التأثير على الميزان التجاري وبالتالي على ميزان المدفوعات وعلى الاحتياطي النقدي. بل يشمل أيضاً الوضع المالي الداخلي للدولة نظراً لتبعيته للميزان التجاري: الإيرادات العامة في ميزانية الدولة تتأتى بالدرجة الأولى من الصادرات النفطية.
وتزداد حدة التأثير بسبب السياسة الاقتصادية المعتمدة، إذ لا توجد في الكويت إيرادات غير نفطية مهمة يمكنها تغطية العجز المالي المزمن: ضعف حصيلة الضرائب. وعدم إمكانية الاستفادة من الصندوق السيادي في تمويل الإنفاق العام، وغياب قانون الدين العام. يتطلب هذا الوضع إجراء إصلاحات جوهرية على تلك السياسة لا سيما من الزاوية المالية.
ويتبين من خلال جداول صندوق النقد الدولي الخاصة بمشاورات المادة الرابعة بأن الإصلاحات الاقتصادية في الكويت سوف تؤدي إلى معالجة عجز ميزان المدفوعات. سيسجل هذا الميزان فائضاً قدره 1524 مليون دينار في 2028 أي أعلى من الفائض في 2022.
لكن هذه الإصلاحات سوف تؤثر سلبياً على مختلف المؤشرات الاقتصادية للدولة. فهذا الفائض سوف لن ينجم عن تحسن مركز الميزان التجاري أي زيادة الصادرات وتقليص الواردات بل بالمقام الأول عن تقليص الاستثمارات الكويتية في الخارج. الأمر الذي ينعكس مباشرة على مكانة الصندوق السيادي من الناحيتين المحلية والدولية.
بات إذن من اللازم إجراء تعديل جوهري على برامج الإصلاح يرتكز (فيما يخص ميزان المدفوعات) على النقاط التالية:
1- العمل على تحسين القيمة المضافة في الصناعات التحويلية المدنية والعسكرية بغية زيادة الصادرات غير النفطية وتقليص الواردات السلعية.
2- إصلاح النظام الجمركي خاصة زيادة الرسوم على استيراد بعض السلع كالسيارات. ينبغي أن تنسجم هذه الزيادة مع الاتفاقات الخليجية حول التعريفة الجمركية الموحدة من جهة ومع الاتفاقات متعددة الأطراف لمنظمة التجارة العالمية من جهة أخرى.
3- الاهتمام بقطاع النقل الدولي وتشجيع السياحة الداخلية. عندئذ يهبط عجز حساب الخدمات بدلاً من أن يرتفع باستمرار.
4- حث الكويتيين على العمل في القطاع الخاص بهدف تخفيف العبء على ميزانية الدولة وتقليص تحويلات العمال الأجانب. ومن المتوقع أن تحقق الدولة نجاحاً في هذا الميدان في السنوات القادمة.
5- جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تهتم بالصناعة والزراعة.
6- إصلاح السياسة المالية في عدة ميادين: الضرائب والدين العام والصندوق السيادي والأجور. يتطلب هذا الإصلاح المالي معالجة العلاقة المتردية بين الحكومة ومجلس النواب.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=69077