بدأت السعودية خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا بالتحول من مجرد الحديث عن تنويع الاقتصاد إلى منافسة فعلية في واحد من أكثر القطاعات تعقيدًا وحساسية هو الذكاء الاصطناعي وذلك في تحرك فاجأ دوائر التكنولوجيا وصنّاع القرار في الغرب.
وقال تقرير نشره موقع إنفيز التكنولوجي أن ما يجري في المملكة يمثل محاولة منظمة لإعادة صياغة اقتصاديات الذكاء الاصطناعي على المستوى العالمي.
وأشار التقرير إلى أنه خلال أقل من عام، وقّعت السعودية صفقات بمليارات الدولارات لبناء مراكز بيانات عملاقة، وأمّنت وصولًا إلى رقائق حوسبة متقدمة، وطرحت تصورًا تجاريًا يقوم على تقديم خدمات الذكاء الاصطناعي بكلفة أدنى من أي سوق كبرى أخرى تقريبًا. الطموح المعلن يتجاوز اللحاق بالركب، ويستهدف بناء نموذج مختلف قد يتفوق على ما أنجزته قوى تقنية راسخة حتى الآن.
وبحسب الموقع فإن جوهر الفكرة السعودية بسيط في ظاهره، لكنه بالغ التأثير: تحويل الكهرباء الرخيصة إلى ذكاء اصطناعي رخيص، ثم تصدير هذا الذكاء رقميًا إلى العالم.
وعلى خلاف النماذج التقليدية التي تضع المواهب أو البرمجيات أو الرقائق في صدارة الأولويات، تبني السعودية استراتيجيتها على عنصر واحد حاسم: الطاقة.
فمشاريع الطاقة الشمسية الضخمة على ساحل البحر الأحمر تنتج كهرباء بتكلفة تقارب سنتًا واحدًا لكل كيلوواط/ساعة، وهو مستوى يصعب على أوروبا أو الولايات المتحدة مجاراته.
وتكتسب هذه الميزة أهمية استثنائية في مرحلة “الاستدلال” في الذكاء الاصطناعي، أي تشغيل النماذج والإجابة على مليارات الطلبات اليومية.
فبينما يُعد تدريب النماذج مكلفًا ومتقطعًا، تمثل كلفة التشغيل المستمر العامل الحاسم في تحديد الأسعار على المدى الطويل. وبما أن كلفة الاستدلال تعتمد أساسًا على كفاءة العتاد وسعر الكهرباء، تستطيع السعودية تعويض غياب تصنيع الرقائق المتقدمة عبر تشغيلها بأرخص طاقة موثوقة عالميًا.
ووفق تقديرات شركة PwC، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي السعودي بأكثر من 12% بحلول 2030. لذلك أُدرجت بنية الذكاء الاصطناعي ضمن أولويات «رؤية 2030»، وأُسند التنفيذ إلى كيان واحد هو شركة «هيومين» (HUMAIN).
وتعمل «هيومين»، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، كشركة تشغيلية تبني المنظومة كاملة تحت سقف واحد: مراكز بيانات، منصات سحابية، نماذج لغوية ضخمة، وتطبيقات عملية.
ويقود الشركة طارق أمين، القادم من قطاع الاتصالات والبنية التحتية، في إشارة إلى أن الرهان الأساسي ليس على البرمجيات وحدها، بل على التشغيل واسع النطاق.
وتخطط الشركة لاستهداف قدرة تشغيلية تصل إلى نحو ستة غيغاواط من مراكز البيانات بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي. وتشير تقارير إلى تحديد أكثر من 200 موقع محتمل تتوفر فيها الطاقة والأراضي والتراخيص، في وقت تمثل فيه القدرة الكهربائية عنق الزجاجة في معظم دول العالم.
ولا تكتفي «هيومين» بالبنية التحتية، إذ أطلقت نظام تشغيل قائمًا على الذكاء الاصطناعي موجّهًا للشركات، تُدار فيه العمليات عبر اللغة الطبيعية بدل القوائم التقليدية.
وتؤكد الشركة أنها تستخدم بالفعل وكلاء ذكاء اصطناعي لإدارة الرواتب والعمليات القانونية والإدارية، في محاولة لإظهار أثر النشر الواسع للتقنيات داخل المؤسسات.
وتتضح ملامح الاستراتيجية أكثر من خلال الشركاء. فقد اختارت «هيومين» شركة «أمازون ويب سيرفيسز» شريكًا سحابيًا مفضلًا، وتعمل مع «إنفيديا» لتوفير المسرّعات الحاسوبية. ويجري التخطيط لإنشاء «منطقة ذكاء اصطناعي» في الرياض قادرة على دعم التدريب والاستدلال معًا.
ماليًا، دخلت الشركة في شراكة مع «إيرترنك» المدعومة من «بلاكستون» وصندوق التقاعد الكندي، باستثمار أولي يقارب ثلاثة مليارات دولار لبناء مجمّع مراكز بيانات. هذه أموال بنية تحتية تبحث عن عوائد مستقرة، لا مضاربات سريعة.
أما الوصول إلى الرقائق، وهو الملف الأكثر حساسية سياسيًا، فقد شهد تحولًا لافتًا مع حصول المملكة على تراخيص لاستيراد عشرات الآلاف من أفضل رقائق «إنفيديا»، في خطوة أنهت فعليًا استبعادها من الحوسبة المتقدمة.
رغم ذلك لا تخلو المقاربة من مخاطر، أبرزها تحديات التبريد في المناخ الصحراوي، ونقص الكفاءات البشرية، واستمرار الاعتماد على قرارات جيوسياسية خارجية في ملف الرقائق. ومع ذلك، تبدو الاستراتيجية متماسكة داخليًا، ومدعومة برأس مال سيادي قادر على تحمّل فترات استرداد طويلة.
وقد لا تتحول السعودية إلى المركز العالمي الوحيد للذكاء الاصطناعي، لكنها تحاول ما لا يجرؤ عليه كثيرون: إعادة تعريف الكلفة، وقلب ميزان القوة، وتحويل الإلكترونات إلى ذكاء يُباع على نطاق عالمي.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=73474