في الطريق إلى دمشق.. ماذا كتبت أجهزة بشار الأسد السرية

بعد أيام من نجاح المتمردين في طرد الجيش السوري من مدينة رئيسية في الشمال، وصل تقرير من خمس صفحات إلى مكاتب ضباط الاستخبارات العسكرية في دمشق، حاملاً تشخيصًا مقلقًا.

لقد أجبرت القوات النخبوية التي أُرسلت لتعزيز دفاعات حلب على التراجع، بينما انسحب جيش النظام “بطريقة مجنونة وعشوائية”. لقد فرّ الجنود “بشكل هستيري”، تاركين وراءهم الأسلحة والمركبات العسكرية، وفقًا لتقرير أعدّه ضابط استخبارات عسكري بارز في المدينة بتاريخ الثاني من ديسمبر.

بحلول ذلك الوقت، كان مقاتلو هيئة تحرير الشام (HTS) قد وضعوا أعينهم بالفعل على مدينة ثانية، ومع تقدمهم في الأيام التالية، تدفقت التقارير إلى مقر الفرع 215، وهو مبنى خرساني مكون من ثمانية طوابق يُعد جزءًا مرهوبًا في جهاز الأمن الواسع التابع للديكتاتور السوري بشار الأسد، في وسط دمشق.

وصفت التقارير السرعة والاتجاه الذي يتحرك به المتمردون، إلى جانب أوامر وخطط متزايدة الاضطراب تهدف إلى إبطاء تقدمهم.

وتسجل مجموعة من الوثائق الاستخباراتية السرية—المكونة من آلاف الصفحات—التي اكتشفها صحفيون من وول ستريت جورنال داخل المبنى في ديسمبر، التفكك السريع بشكل مذهل للنظام الاستبدادي الذي حكم سوريا بقبضة من حديد لعقود.

في الوقت الذي كانت فيه هيئة تحرير الشام تتقدم بسرعة عبر سوريا، حاولت الحكومة، من خلال تصريحاتها العلنية، التقليل من شأن المكاسب التي حققها المتمردون وإظهار ثقة زائفة، لكن الاتصالات الداخلية بين القوات التي تحاول حماية النظام كانت مليئة بحالة متزايدة من الذعر.

في النهاية، تخلى ضباط وعناصر الفرع 215 عن مواقعهم أيضًا، تاركين وراءهم أكوامًا من الزي العسكري والأسلحة والذخيرة، إلى جانب زجاجات الويسكي الفارغة وأعقاب السجائر وأكوام من تقارير الاستخبارات، بعضها موثّق في مجلدات، والبعض الآخر مكدس في أكوام عشوائية.

عندما زارت وول ستريت جورنال مكاتب الفرع 215، وُجدت لوحة فسيفسائية للرئيس بشار الأسد وقد تم اقتلاع عينيه وفمه.

وتقول نَنار حوّاش، كبيرة المحللين المعنيين بسوريا في مجموعة الأزمات الدولية: “لقد ظلوا يعملون حتى اللحظة الأخيرة. إنهم الركيزة الأساسية للنظام السوري السابق”.

شكل النجاح المفاجئ لهجوم هيئة تحرير الشام، والانهيار المذهل لجيش النظام، فشلًا استخباراتيًا كارثيًا داخل سوريا وخارجها.

حتى تلك اللحظة، كان يُعتقد على نطاق واسع أن الأسد قد نجح في تثبيت حكمه بعد 13 عامًا من الحرب الأهلية.

كانت قوات النظام قد استعادت السيطرة على معظم أنحاء البلاد بدعم من روسيا وإيران، بينما كانت المعارضة محصورة إلى حد كبير في جيب شمال غربي سوريا.

لكن هذا الوضع تغيّر في نوفمبر، عندما لاحظ قادة هيئة تحرير الشام أن إيران وحزب الله وغيرهم من داعمي الأسد كانوا يواجهون انتكاسات، بينما كانت روسيا منشغلة بشكل متزايد بحربها في أوكرانيا.

شنّت هيئة تحرير الشام هجومًا مفاجئًا، متقدمة بسرعة باتجاه حلب، ومع اقتراب المتمردين من المدينة يوم 28 نوفمبر، أُرسل تعميم من أحد المقرات إلى جميع فروع الأجهزة الاستخباراتية هناك، يأمر برفع الجاهزية القتالية إلى 100% وتعليق الإجازات حتى إشعار آخر.

بعد يومين فقط من ذلك، كان المتمردون داخل المدينة.

يبدأ التقرير الذي وثّق انهيار الجيش بالإشارة إلى وصول طائرة نقل عسكرية من طراز إليوشن من دمشق تحمل 250 عنصرًا من الاستخبارات العسكرية، بينهم أفراد من الفرع 215، مزودين بقذائف صاروخية ورشاشات ثقيلة، في محاولة أخيرة للدفاع عن المدينة، لكن خلال ساعات من انتشارهم يوم 29 نوفمبر، تعرضوا لهجوم بالطائرات المسيّرة.

وقال العميد نيكولاس موسى، ضابط الاستخبارات الذي كتب التقرير، إن محاولات متكررة لحشد وحدات الجيش باءت بالفشل، حيث فرّ الجنود تاركين وراءهم أسلحة وآليات عسكرية، وأوضح أن غياب الدعم الجوي والتغطية المدفعية زاد من حالة الذعر.

وجاء في التقرير: “كان الجرحى ممددين على الأرض دون أن يجدوا من يعالجهم أو ينقلهم إلى مكان آمن”.

وسلط التقرير الضوء على التفسخ داخل جيش الأسد بلغة غير معتادة في التقارير العسكرية، وأشار إلى أن فشل القيادة العسكرية أدى إلى “تراخٍ” في الصفوف واختراقات أمنية، حيث تم تسريب معلومات حساسة بشأن مواقع القوات خلال الهجوم.

وأضاف التقرير: “الضباط والعناصر انشغلوا بالمصالح المادية والملذات”، كما لجأ الجنود إلى “أساليب غير قانونية” لإصلاح المعدات وتأمين احتياجاتهم المعيشية، بسبب نقص الموارد والأوضاع الاقتصادية المتدهورة.

ويعكس هذا التقييم ما لاحظه المحللون منذ سنوات، إذ إن الأسد، مع تدهور الاقتصاد بفعل الحرب والعقوبات، سرّح بعض الجنود، وقلّص الحصص الغذائية للمجندين، واعتمد بشكل متزايد على الميليشيات المحلية والمقاتلين الأجانب الذين جندتهم إيران، كما أن التضخم أدى إلى تآكل قيمة رواتب الجنود النظاميين، بينما استشرى الفساد في الجيش.

وحذّر تقرير استخباراتي في الثلاثين من نوفمبر، قائلاً: “وردتنا معلومات عن اتصالات وتنسيق بين الجماعات الإرهابية في شمال سوريا وخلايا نائمة إرهابية في الجنوب ومحيط دمشق”.

ودعا التقرير إلى تعزيز المراقبة واتخاذ تدابير أمنية صارمة، كما تم توجيه الفرع 215 إلى نشر وحدات استجابة سريعة مسلحة عند بوابات العاصمة.

بعد السيطرة على حلب، شنّ المتمردون هجومًا على مدينة حماة، مهددين بسقوط المدينة التالية ضمن الشريط الممتد من المدن التي كانت جوهر استراتيجية الأسد في الحفاظ على السلطة، حتى مع فقدانه السيطرة على مناطق أخرى من البلاد.

ومع تقدم المتمردين، اقترح تقرير استخباراتي أن يقوم الجيش السوري بشن هجوم مفاجئ على مؤخرة هيئة تحرير الشام، عبر استهداف معقلها في إدلب، مستغلًا ضعف دفاعاتها هناك، بهدف إرباك صفوفها وتخفيف الضغط عن القوات السورية حول حماة، لكن لم يُنفَّذ أي هجوم من هذا النوع.

وحذّرت التقارير من أن المتمردين سيتنكرون بزيّ قوات النظام عبر حمل صور الأسد ورفع العلم السوري، كما وردت تحذيرات من قيام المتمردين بتلغيم سيارات الإسعاف بالمتفجرات.

وحذّر تقرير استخباراتي في الرابع من ديسمبر، من أن قوات النخبة في هيئة تحرير الشام، المعروفة بـ”الألوية الحمراء”، ستتسلل إلى حماة تلك الليلة وفي اليوم التالي، سقطت حماة بيد المتمردين.

وكان هذا منعطفًا حاسمًا، إذ لم تعد تفصلهم عن العاصمة سوى مدينة رئيسية واحدة: حمص.

في الوقت نفسه، انضمت جماعات معارضة أخرى في جميع أنحاء البلاد إلى القتال، حيث بدأت الفصائل الجنوبية بالاندفاع شمالًا نحو دمشق ومع استمرار زحف المتمردين، ركّزت أجهزة الاستخبارات بشكل متزايد على الوضع الأمني في العاصمة، لدرجة التدقيق في أدق التفاصيل.

واشار أحد التقارير إلى أن أفراد عدة انتقلوا حديثًا من مناطق سيطرة المتمردين في الشمال الغربي إلى إحدى ضواحي دمشق، محذرًا من أنهم قد يكونون خلايا نائمة.

وذكر تقرير آخر أن هيئة تحرير الشام أمرت عملاءها في ريف دمشق بالبقاء على استعداد لتنفيذ عمليات.

ورُصد “نشاط غير مألوف” بين رجال ملتحين يرتدون معاطف جلدية سوداء في شارع الشعلان الراقي في وسط العاصمة، كما لاحظت فرق المراقبة مجموعة من ماسحي الأحذية وامرأة غريبة الوجه تبيع الخضار وتضع مكياجًا كثيفًا تحت نقابها، وتتحدث بلهجة تدل على أنها من شرق سوريا وأوصت مذكرة أمنية بضرورة “طلب تسجيلات كاميرات المراقبة من أصحاب المحال التجارية لمراجعة أي تحركات مشبوهة”.

في ظل هذا التهديد، حاول بعض قادة النظام حشد القوات للدفاع عن العاصمة وفي منتصف ليل الخامس من ديسمبر، صدر أمر باسم الرئيس الأسد يأمر وحدة مدرعة بالعودة إلى دمشق من دير الزور في الشرق.

وقال عبد الرحمن الشوينيخ، وهو ضابط برتبة متدنية في الوحدة، كان قد أمضى شهرين فقط في الخدمة العسكرية الإلزامية، في مقابلة إنه أدرك أن المتمردين “لن يتم إيقافهم” وأضاف: “قررت الفرار”.

ومع اقتراب المتمردين من دمشق، تدفقت التقارير الاستخباراتية عن مواقعهم المفترضة وزعم أحد المصادر أن هناك عشرين “إرهابيًا” ودبابتين في مزرعة دجاج، فيما أبلغ مصدر آخر عن كهف في ريف إدلب يُستخدم كمقر قيادة لـ”هيئة تحرير الشام”، لكن لم يتضح ما إذا كانت هذه المعلومات صحيحة أو إذا تم التصرف بناءً عليها.

في تلك المرحلة، تصاعدت المخاوف من تدخل أجنبي مع تراجع قبضة النظام، وحذّر فرع فلسطين—المعروف بسمعته السيئة بسبب تعذيب المعتقلين—من أن “إرهابيين بالقرب من الحدود السورية مع إسرائيل يخططون لتنفيذ هجوم بدعم من العدو الصهيوني”.

وابلغ مصدر من بين المتمردين المدعومين من الولايات المتحدة والمتمركزين بالقرب من الحدود الأردنية الاستخبارات السورية أن واشنطن أمرتهم بالتقدم نحو ريف درعا الشرقي ومدينة تدمر التاريخية، وفقًا لتقرير أُرسل في الخامس من ديسمبر.

في الوقت نفسه، كانت القوات التركية ترافق شاحنات محملة بالمعدات والأسلحة الثقيلة عبر الحدود إلى قاعدة المتمردين في إدلب، بحسب مصدر يحمل الاسم الرمزي BD2-01.

ومع تقدم المتمردين من الشمال، أحكمت فصائل معارضة مسلحة أخرى قبضتها من الجنوب، وجاء في تقرير مُرسل إلى غرفة العمليات أن مجموعات صغيرة من المتمردين على دراجات نارية سيطرت على نقاط تفتيش عسكرية، واستولت على عربة قتال مشاة ومركبتين مزودتين برشاشات ثقيلة.

وفي السادس من ديسمبر، قدّر تقرير استخباراتي أن “الوضع في محافظة درعا مضطرب”، وقال ضابط استخبارات متمركز في درعا لصحيفة وول ستريت جورنال إن الاضطراب كان يتزايد مع ورود تقارير متتالية عن تقدم المتمردين.

وأضاف أن سيطرة النظام على الجنوب كانت ضعيفة حتى قبل الهجوم، إذ لم تكن نقاط التفتيش والمواقع العسكرية سوى رمز شكلي لوجود النظام—ومصدر دخل للعناصر الذين كانوا يبتزون الرشاوى لتعويض رواتبهم الزهيدة، وبدء معظم زملائه الذين كانوا من معاقل النظام الموالية على الساحل السوري، بمغادرة مواقعهم قبل أيام من سقوط دمشق.

وقال الضابط، الذي بقي حتى اليوم السابق لهروب الأسد إلى موسكو: “كانوا جميعًا يفكرون في ديارهم—وليس هنا”.

على الأرض، استمر الجيش في الانهيار، وقال المساعد أول أحمد الرواشدة، الذي كانت وحدته تشغّل محطة تشويش روسية الصنع على الجبهة بالقرب من حمص “الجميع أراد الفرار—حتى الضباط”، وقال إنه وبعد ست سنوات من الخدمة الإلزامية، لم يعد لديه أي دافع لتنفيذ الأوامر والقتال، فخلع زيه العسكري وبندقيته عند غروب الشمس، وانضم إلى مجموعة من الجنود الذين اختبأوا في قرية قريبة حتى انتهاء القتال.

قبل أيام قليلة من سقوط دمشق في الثامن من ديسمبر، صدرت أوامر بنقل القوات والمعدات لمواصلة القتال وتم تكليف الفرقة المدرعة الثالثة بنقل 400 بندقية آلية، و800 مخزن ذخيرة، و24 ألف طلقة إلى كتيبة في منطقة طرطوس الساحلية، التي تضم قاعدة بحرية روسية رئيسية وتعتبر معقلًا للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد.

أما التعزيزات المخصصة لقاعدة الفرقة 14 قوات خاصة غرب دمشق، فكان من المقرر أن تتحرك عند منتصف يوم 7 ديسمبر.

عشية انهيار النظام، ورد تقرير طُمست فيه الإشارة إلى مصدره بالسائل الأبيض، تناول الطريق المتوقع للمتمردين نحو دمشق، وتوقع أن يصلوا إلى الضواحي في غضون يومين ويستولوا على سجن صيدنايا، حيث كان المعارضون السياسيون يُعتقلون ويُعذبون.

كان التوقيت الوارد في التقرير خاطئًا، لكن التوقع الأخير تحقق: حيث اقتحم المتمردون السجن وحرروا المعتقلين بعد ساعات من فرار الأسد من البلاد وانتهى التقرير بعبارة لطالما استخدمها ضباط الاستخبارات حتى آخر لحظة، وهي تعكس إصرارهم على إبقاء النظام قائمًا: “راجع وافعل ما هو ضروري”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.