بتوقيع بروتوكول التعاون البحري الجديد في الإسكندرية مطلع سبتمبر 2025، فتحت الملكة العربية السعودية ومصر فصلًا إضافيًا في مسار شراكتهما الدفاعية لمواجهة التهديدات البحرية.
وتمثل الاتفاقية، التي جاءت على هامش مناورات “النجم الساطع” الأوسع مشاركة في تاريخها، أكثر من مجرد ترتيبات تدريبية أو تبادل خبرات، بوصفها تعبير عن إدراك مشترك لحجم التهديدات التي تتربص بالممرات البحرية الاستراتيجية، من البحر الأحمر إلى شرق المتوسط، وعن رغبة البلدين في تحويل التعاون من مستوى موسمي إلى شراكة مؤسسية قابلة للاستمرار.
وينص البروتوكول الموقع على توسيع نطاق التدريب المشترك، وتبادل الضباط بانتظام، وتنسيق العمليات البحرية في البحرين الأحمر والمتوسط. كما يشمل التعاون في مجالات القيادة والسيطرة واللوجستيات والصيانة، إضافة إلى تكثيف زيارات الموانئ والمناورات الثنائية.
اللافت أن البروتوكول ركّز على قضايا متصاعدة مثل مكافحة الإرهاب البحري، حماية خطوط الملاحة التجارية، والعمليات البرمائية.
ولا تعكس هذه الملفات فقط التحديات المباشرة — كتهديد الحوثيين في البحر الأحمر أو القرصنة البحرية — بل تعكس أيضاً سعي الطرفين لبناء قوة ردع بحرية عربية منظمة، تتجاوز الطابع العرضي للمناورات السابقة.
خبرة مصر وطموح السعودية
من زاوية الرياض، تمنح الاتفاقية فرصة للاستفادة من الخبرة المصرية المتراكمة في تشغيل الغواصات، المناورات متعددة الجنسيات، واستخدام حاملات المروحيات “ميسترال”. هذه الخبرات لا تزال المملكة في طور بنائها، ضمن خططها لتوطين الصناعات الدفاعية وتحديث قواتها البحرية.
أما القاهرة، فترى في الدعم السعودي تعزيزًا لمكانتها باعتبارها أكبر قوة بحرية عربية، وهو موقع يعزز مكانتها السياسية ويمنحها أوراق ضغط إضافية في ملفات الغاز والطاقة والأمن الإقليمي.
كما أن الشراكة مع السعودية — بما تمثله من ثقل اقتصادي وسياسي — تضيف غطاءً ماليًا واستراتيجيًا لاستمرار تحديث الأسطول المصري، وربما لفتح قنوات تعاون أوسع مع الشركاء الخليجيين.
رسائل في أكثر من اتجاه
يكتسب توقيت الاتفاقية دلالة خاصة لارتباطه بثلاثة سياقات رئيسية:
مناورات “النجم الساطع 2025”: بمشاركة 43 دولة، جسّدت المناورات اختبارًا واقعيًا للتكامل متعدد الجنسيات. وهنا جاءت الاتفاقية لتقنين الدروس المستفادة وتحويلها إلى خطة عمل ثنائية مستمرة.
لقاء السيسي وبن سلمان في نيوم: قبل توقيع البروتوكول بأيام، ناقش الزعيمان أمن البحر الأحمر، ما يعكس أن الاتفاق ليس خطوة تقنية فحسب، بل ثمرة اصطفاف سياسي أوسع بين القاهرة والرياض.
تصاعد التهديدات البحرية: سواء عبر هجمات الحوثيين على الملاحة العالمية في البحر الأحمر، أو الاضطراب في شرق المتوسط بفعل تنافس الغاز وتغير التحالفات، فإن البيئة البحرية الحالية شديدة الهشاشة. وهنا يبعث الاتفاق برسالة مزدوجة: الردع أمام الخصوم، والطمأنة للحلفاء.
مناورات متراكمة تمهد للتوقيع
الاتفاقية لم تأتِ من فراغ. فمنذ مناورات “الموج الأحمر” عام 2018، إلى النسخة السابعة في 2024، والبحريتان السعودية والمصرية تجتمعان بانتظام لمكافحة الإرهاب البحري وحماية القوافل. كما تعاونتا في تدريبات “ميدوزا” مع اليونان وفرنسا وقبرص، التي ركّزت على الحرب المضادة للغواصات والإنزالات البرمائية.
هذه التمارين أسست لبنية تشغيلية مشتركة، حيث جرى توحيد إجراءات القيادة والاتصالات ومنع التضارب بين العمليات الجوية والبحرية. وبالتالي، فإن البروتوكول الأخير هو ترسيخ لمسار قائم، لا بداية جديدة.
كما لا يمكن قراءة الاتفاقية بمعزل عن التوازنات الأوسع:
في البحر الأحمر، تصاعدت هجمات الحوثيين المدعومين من إيران، ما كبّد مصر خسائر في إيرادات قناة السويس بلغت نحو 800 مليون دولار شهريًا مطلع العام. التعاون مع السعودية هنا يهدف إلى تأمين هذا الشريان الحيوي للتجارة العالمية.
في الخليج، تستمر التوترات بين إيران ودول مجلس التعاون، مع تصعيد حول الجزر المتنازع عليها ومخاطر استهداف الملاحة. الاتفاقية تمنح السعودية عمقًا عربيًا إضافيًا في مواجهة التهديدات الإيرانية.
في المتوسط، تسعى مصر لحماية مصالحها الغازية وردع تركيا في النزاعات البحرية. الشراكة مع الرياض تمنحها ثقلاً سياسيًا وأمنيًا إضافيًا، وتُظهر أن الدور السعودي لم يعد مقتصرًا على البحر الأحمر بل يمتد إلى المتوسط.
دلالات استراتيجية أوسع
تعكس الاتفاقية ثلاث حقائق جوهرية:
إعادة تعريف دور مصر: القاهرة لا تكتفي بالدفاع عن شواطئها بل تسعى لتصدير خبرتها البحرية، لتصبح المرجع العربي الأول في الأمن البحري.
صعود الطموح السعودي: الرياض تتحرك من قوة برية–جوية تقليدية إلى لاعب بحري مؤثر، مستفيدة من شراكاتها لتعويض النقص في الخبرات والتجهيزات.
بروز بعد عربي جماعي: رغم اختلاف الموردين والتوجهات السياسية، فإن وجود إطار مؤسسي سعودي–مصري قد يفتح الطريق لتنسيق بحري أوسع يضم أطرافًا عربية أخرى.
وعليه فإن توقيع البروتوكول البحري بين السعودية ومصر ليس مجرد وثيقة تقنية، بل هو خطوة سياسية وعسكرية تحمل رسائل داخلية وخارجية. داخليًا، يعزز الثقة بين مؤسستي الجيش في البلدين، ويمنح القطاع الدفاعي دفعة إضافية. وخارجيًا، يرسل رسالة ردع لإيران والحوثيين وطمأنة للأسواق العالمية التي تعتمد على الممرات البحرية في الطاقة والتجارة.
ويرسخ التحالف البحري بين القاهرة والرياض معادلة جديدة: أن الأمن في البحر الأحمر والمتوسط لم يعد شأناً محليًا بل مسألة إقليمية تتطلب تنسيقًا مؤسسيًا مستدامًا.
وفي ظل هشاشة البيئة البحرية وتزايد الرهانات الاقتصادية والجيوسياسية، يمكن القول إن هذا الاتفاق هو بداية تحول استراتيجي قد يعيد رسم موازين القوى في واحدة من أكثر الممرات المائية حساسية في العالم.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=72659