دبلوماسية الوساطة تعكس النفوذ المتنامي للقوى الخليجية

يُثبت الانخراط المتزايد لدول الخليج في جهود دبلوماسية الوساطة النفوذ المتنامي للقوى المتوسطة في السياسة الدولية، كما يعكس الصعوبة التي يواجهها الوسطاء التقليديون في التكيف مع التعقيدات التي تطبع عالماً متعدد الأقطاب ومترابطاً ومشبّكاً بشكل متزايد.

وفي خضم الحاجة المتزايدة للتعاون في حل النزاعات، يرزح النظام الحالي للعلاقات الدولية تحت وطأة المنافسات الجيوسياسية والجيواقتصادية سواء القائمة منذ فترة طويلة أم الناشئة.

وفي هذا السياق، تدخل جهات فاعلة جديدة، مثل دول الخليج، إلى ساحة الوساطة الدولية، حيث تلعب دوراً مهماً في سد الفجوات التي تخلفها القوى التقليدية وتقدّم منظوراً جديداً بشأن حل النزاعات في عالم متزايد التعقيد يُعد قيّماً للغاية، بحسب مقال تحليلي “مركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة”.

وفي بعض الأحيان، تجد القوى التقليدية في مجال الوساطة، كالولايات المتحدة والدول الأوروبية، أن أساليبها الموثوقة التي جرّبتها واختبرتها غير مناسبة لخصائص النزاعات الجديدة، المتجذرة بعمق في السياقات المحلية وديناميكيات القوة الإقليمية.

وربما يحتاج نهجها في الوساطة، الذي يعتمد غالباً على عمليات رسمية ومنظمة وقانونية، إلى مرونة أكبر للتكيف مع الطبيعة المتغيرة والديناميكية لهذه النزاعات.

كما أن تاريخ الانخراط السياسي والاقتصادي والعسكري في مناطق النزاع، والذي يمكن أن يؤدي إلى تصور قائم على التحيز أو المصالح الخاصة، يجعل من الصعب بشكل متزايد اعتبار بعض البلدان وسيطة محايدة وغير متحيزة.

وتحت ضغط الرأي العام، فإن إعطاء الأولوية لتحقيق نتائج سريعة وملموسة قد يدفع نحو التوصل إلى تسويات سريعة لا تعالج بشكل كاف الأسباب الجذرية الكامنة وراء النزاعات.

وغالباً ما تنبع هذه المقاربة من عدم مراعاة الدوافع التاريخية، وثقافة “تحقيق التقدم” بأي ثمن، واعتماد مبدأ “نهج واحد يناسب الجميع” في التعامل مع الأنظمة السياسية وأنظمة الحكم.

وقد أدّى هذا النهج إلى تقويض الفعالية، ولا تؤيده الجهات الفاعلة الإقليمية. وفي المقابل، قد يكون أسلوب الوساطة الذي تتبعه دول الخليج أكثر ملاءمة للتغلب على هذه التحديات.

لقد لعبت دول الخليج دوراً حاسماً في جهود الوساطة المتعلقة بالنزاعات الإقليمية والدولية.

على سبيل المثال، أدّت قطر دوراً نشطاً من خلال وساطتها الناجحة في الأزمة اللبنانية عام 2008، واستِضافتها المحادثات بين الولايات المتحدة وحركة “طالبان” في الدوحة، وتوسطها مؤخراً بين إسرائيل و”حماس”.

ولعبت الكويت دوراً حاسماً في محاولة حل خلاف قطر مع بعض دول “مجلس التعاون الخليجي” بين عامَي 2017 و2021.

وقد حاولت المملكة العربية السعودية تقليدياً التوسط في النزاع الفلسطيني الداخلي من خلال اتفاق مكة واستضافة محادثات جدة بين الفصائل السودانية المتحاربة.

وأدّت الدبلوماسية السرية التي اتبعتها عُمان إلى تسهيل المناقشات المبكرة بين الولايات المتحدة وإيران والتي أسفرت عن التوصل إلى الاتفاق النووي لعام 2015.

ودخلت الإمارات العربية المتحدة بشكل نشط إلى مجال الوساطة، لا سيما من خلال دورها المحوري في اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018، وسهلت عمليات تبادل أسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كما نشطت في الساحة متعددة الأطراف من خلال استضافتها قمة “كوب 28” في دبي.

وتقوم نقطة البداية البديهية على النظر في أسلوب الوساطة الذي تتبعه دول الخليج، والسبب الذي قد يكون أكثر ملاءمة للتعامل مع الاضطرابات الجيوسياسية الحالية.

وعلى الرغم من أن تحديد “أسلوب” محدد للوساطة وحل النزاعات قد يكون سابقاً لأوانه، إلّا أن الكثير من العناصر المشتركة بدأت بالظهور، أحدها مفهوم “الصلح”، وهو أسلوب عربي تقليدي لحل النزاعات يركز على المصالحة واستعادة العلاقات.

ويلعب هذا المفهوم المتجذر بعمق في الثقافة العربية، دوراً مهماً في تشكيل أسلوب الوساطة الخليجية. ومع ذلك، تساهم كل دولة بمنظورها الثقافي والتاريخي الفريد الذي يحدد القيمة التي تضيفها إلى الجهود الدولية.

وهناك العديد من العوامل، بدءاً من دور المجلس ومفهوم الصلح إلى عوامل أكثر حداثة مثل الهيكلية الفيدرالية لدولة الإمارات، أو السياسة الخارجية للمنطقة المتمثلة في التحالفات المتداخلة المتعددة، أو روابطها القوية مع الشمال العالمي والجنوب العالمي، التي تحدد الخطوط العريضة للأسلوب الناشئ للوساطة الخليجية وحل النزاعات.

ويرى بعض المحللين أن الطبيعة الشخصية المميزة لنهج الوساطة المتبع من قبل دول الخليج تتداخل مع حكمها الملكي، حيث تكون عملية صنع القرار مركزية للغاية.

يعتبرون أن هذا الاستقرار يسمح باتباع نهج ثابت في السياسة والدبلوماسية، والتي تشمل جهود الوساطة، التي قد تكون مفيدة عند بناء الثقة والتفاهم بين الأطراف المتنازعة.

ومع ذلك، لا يمكن أن يُعزى أسلوب الوساطة في الخليج إلى نظامه السياسي فقط، إذ أن ذلك قد يغفل ميلاً ثقافياً أكثر ترسخاً نحو تعزيز العلاقات الدائمة لحل النزاعات.

وبخلاف التركيز الغربي على تحديد المشاكل وتنفيذ التدخلات بسرعة، يشدد النهج الخليجي بشكل كبير على بناء الثقة والروابط بتروٍّ ودقة.

وتشهد منطقة الخليج اعترافاً متزايداً بالعلاقة التكافلية بين الاستقرار الإقليمي والازدهار الوطني. ويتضح ذلك بالدرجة الأولى في الإمارات، التي تركز على وقف التصعيد والتطبيع مع الدول الحيوية في المنطقة، وهي إيران وإسرائيل وتركيا وقطر وسوريا، كما ركزت على تنويع اقتصادها.

وبالمثل، فإن وقف التصعيد بين السعودية وإيران يشكل جزءاً من تركيز أكبر للسياسة الخارجية على دعم الخطة السعودية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المتمثلة بـ”الرؤية 2030”.

وبينما تسعى جميع بلدان المنطقة إلى مستقبل خارج نطاق النفط والغاز، فإنها تدرك بشكل متزايد أن التنويع الاقتصادي المستدام يعتمد على السلام والأمن في المنطقة وخارجها.

وبالتالي، يُعنى انخراط دول الخليج في الوساطة بالمساهمة في توافق إقليمي بقدر ما يُعنى بحماية مصالحها الاقتصادية وخطوط الإمداد بالموارد وطرق التجارة الخاصة بها، وفي النهاية، نجاح استراتيجيات التنويع الاقتصادي.

وإن هذا التركيز على الاستقرار – وهو خروج عن نهج الدول الغربية الذي يركز عادة على تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في جهود حل النزاعات – هو جانب رئيسي من استراتيجية الوساطة لدول الخليج. فنهجها أكثر واقعية وأقل توجيهية، مما يُمكّن توفير درجة من الطمأنينة في مواجهة النزاعات المعقدة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.