جولة ترامب في الشرق الأوسط: حين تتقاطع السياسة مع المصالح الخاصة

زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثانية إلى الشرق الأوسط، في بداية ولايته الثانية، لم تعد مجرد محطة دبلوماسية عادية. ففي منطقة مشحونة بالتوترات الجيوسياسية، تحمل هذه الجولة أبعاداً اقتصادية وتجارية عائلية تثير جدلاً واسعاً حول تضارب المصالح المحتمل بين مهام الرئيس الرسمية ومصالحه الخاصة.

وفي الأسابيع التي سبقت الزيارة، كثّف نجلا الرئيس، إريك ترامب ودونالد ترامب جونيور، من تحركاتهما في دول الخليج. بصفتهما مديري “مؤسسة ترامب”، أشرفا على إبرام صفقات عقارية واستثمارية بمليارات الدولارات، شملت أبراجاً فاخرة، مشاريع غولف ضخمة، وصفقات عملات مشفرة. هذه التحركات، التي تتقاطع زمنياً وجغرافياً مع جولة ترامب السياسية، أعادت طرح سؤال طالما طارد عائلة ترامب: أين تنتهي المصالح التجارية وتبدأ السياسة؟

 

إريك ترامب، خلال مؤتمر في دبي، تفاخر ببرج فندقي سكني جديد تخطط المؤسسة لبنائه، قائلاً إنه “سيُعيد تعريف الفخامة” في الإمارة. في قطر، وقع قبل أسبوعين اتفاقاً لبناء “نادي ترامب الدولي للغولف” بقيمة 5.5 مليار دولار. في أبو ظبي، أعلنت مؤسسة مرتبطة بعائلته عن مشروع عملة مشفرة بقيمة ملياري دولار، بمشاركة جهات إماراتية.

 

تضارب المصالح: أبعاد غير مسبوقة

يرى مراقبون، من خبراء في أخلاقيات الحكم ومؤرخي الرئاسة، أن هذا التداخل بين مصالح الدولة ومصالح العائلة يرتقي إلى مستوى غير مسبوق. يقول دوغلاس برينكلي، مؤرخ بجامعة رايس: “تورط ترامب في تضارب المصالح خلال توليه المنصب يفوق أي سابقة في التاريخ الأميركي الحديث. لم تعد هناك حتى محاولة للفصل الرمزي بين دوره كرئيس ورجل أعمال”.

على خلاف ولايته الأولى، رفض ترامب الالتزام بأي إجراءات للفصل بين أعماله وإدارته، رغم الضغوط السياسية والقضائية. الدستور الأميركي يحظر على الرئيس تلقي هدايا من حكومات أجنبية دون موافقة الكونغرس، لكن ترامب تجاهل هذه القواعد علناً، كما حدث عندما تحدث بإعجاب عن طائرة بوينغ فاخرة بقيمة 400 مليون دولار، أعلنت قطر تقديمها كهدية له.

 

تكرار النمط: الخليج شريك الأعمال المفضل

علاقة ترامب بدول الخليج ليست وليدة اللحظة. خلال ولايته الأولى، دشّن مشاريع عقارية في دبي وعمان، ومع الوقت أصبحت هذه العلاقة أعمق. ما يميز المرحلة الراهنة هو ضخامة الاستثمارات وتزامنها المباشر مع وجود ترامب في سدة الرئاسة. يقول جيف هاوزر، مدير مشروع “الباب الدوار”: “الفرق بين ترامب وسابقيه ليس في المبدأ بل في الحجم والوقاحة. لم يسبق أن استفادت عائلة رئيس أميركي بهذا الشكل السافر من النفوذ السياسي أثناء وجوده في البيت الأبيض”.

حتى الآن، لم تُثبت المخالفة القانونية، لكن المراقبين يرون أن ترامب يتلاعب بثغرات النظام الأميركي. الدستور يفرض قيوداً شكلية، لكن تطبيقها يعتمد على قدرة المؤسسات السياسية على فرض المحاسبة، وهو أمر تعقّده الانقسامات الحزبية.

 

الإدارة الحالية: شبكة مصالح متشابكة

فريق ترامب في ولايته الثانية أكثر ارتباطاً بمصالح الخليج من فريقه السابق. النائبة العامة بام بوندي، التي دافعت عن قانونية قبول الطائرة القطرية، كانت مسجلة كـ”لوبي” لصالح الدوحة. كما أن شخصيات بارزة في الإدارة تعمل في شركات مرتبطة بمشاريع ترامب في الإمارات وقطر.

صفقات العملات المشفرة تمثل مثالاً صارخاً على هذا التشابك. مؤسسة ترامب تملك 60% من شركة “وورلد ليبرتي فاينانشال”، المسؤولة عن مشروع عملة USD1، فيما يشغل إريك ترامب منصباً في مجلس إدارتها. الأسبوع الماضي، أعلنت شركة استثمار مدعومة من أبو ظبي عن ضخ ملياري دولار في هذا المشروع، ما أثار احتجاجات في الكونغرس، خاصة من الديمقراطيين الذين يرون أن ترامب يحوّل السياسة الخارجية الأميركية إلى منصة أعمال شخصية.

 

قضايا الأمن في المرتبة الثانية

الملفت أن جدول زيارة ترامب لم يُركّز على القضايا الاستراتيجية المعتادة في الشرق الأوسط. رغم التوترات في غزة، وتعقيدات الملف النووي الإيراني، ومساعي التطبيع بين السعودية وإسرائيل، لم تحظَ هذه القضايا بالأولوية المعلنة. مسؤولون في البيت الأبيض أشاروا إلى أن الأجندة الاقتصادية ستتصدر الزيارة، ما يعكس رؤية ترامب التي تختزل الدبلوماسية في لغة الصفقات.

حتى الترتيبات الإعلامية للزيارة اتسمت بالغموض. لم يُقدَّم جدول تفصيلي للرحلة، ولم تُنشر قائمة بالمرافقين على متن “إير فورس وان”، ما أثار انتقادات حول الشفافية.

 

المخاطر السياسية: بين المحاسبة والتكرار

ترامب أعيد انتخابه رغم محاكمتي عزل وإدانة جنائية بـ34 تهمة، ما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذه القضايا على شعبيته. استطلاعات الرأي تظهر أن أكثر من 60% من الأميركيين يرون أن وصف “فاسد” ينطبق عليه بدرجات متفاوتة، لكنه لا يزال يحتفظ بقاعدة انتخابية صلبة.

يرى محللون أن الجمهور الأميركي بات معتاداً على خلط ترامب بين المال والسياسة. النموذج الذي رسخه ترامب يعتمد على تقديم نفسه كرجل صفقات ناجح، لا كرجل دولة تقليدي. في هذا السياق، تصبح علاقاته التجارية أداة لتأكيد نفوذه السياسي، وليس عبئاً عليه.

 

اختبار لمناعة الديمقراطية الأميركية

جولة ترامب الراهنة تكشف عن هشاشة الحدود بين السلطة العامة والمصالح الخاصة في النظام السياسي الأميركي. فبينما يعتبر كثيرون في الخليج أن التعامل مع مؤسسة ترامب شأناً تجارياً بحتاً، فإن انعكاسات هذه الصفقات على نزاهة السياسة الخارجية الأميركية تثير قلقاً عميقاً في واشنطن.

يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع المؤسسات الأميركية – من الكونغرس إلى القضاء – فرض مساءلة حقيقية على رئيس يتعامل مع الحكم كامتداد لمصالحه التجارية؟ أم أن عصر ترامب بات يعيد تعريف قواعد اللعبة ذاتها؟

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.