للمرة الأولى منذ ما يقرب من أربعة عقود، يجري العراق هذا الأسبوع تعداداً سكانياً على مستوى البلاد، وهي المهمة التي من شأنها توفير بيانات بالغة الأهمية لتوجيه التنمية وإعادة تعريف المشهد السياسي والاقتصادي في البلاد.
لكن وراء الوعد الذي يحمله هذا المسعى الطموح، المقرر عقده يومي الأربعاء والخميس، تكمن شبكة من التوتر السياسي، والمخاوف من التلاعب، والنزاعات التي لم يتم حلها حول الأراضي والهوية.
وقال وزير التخطيط محمد علي تميم هذا الأسبوع إن “هذا التعداد هو أول تعداد تنموي شامل لكل العراق يتم إجراؤه منذ 37 عاماً”.
وأضاف “سوف يوفر لنا، كحكومة والحكومات المتعاقبة، خارطة الطريق اللازمة لرسم خارطة التنمية وتقديم الخدمات وتنفيذ المشاريع للمواطنين”.
لقد أجرى العراق عدة تعدادات سكانية منذ التعداد الأول الذي أجرته السلطات البريطانية عام 1920. وبعد التعداد الرابع الذي أجري عام 1947، أصدرت الملكية العراقية قانوناً يقضي بإجراء التعداد كل عشر سنوات.
كان التعداد الثامن الذي أجري عام 1987 هو التعداد الأخير الذي شمل العراق بأكمله. أما التعداد الأحدث الذي أجري عام 1997 فلم يشمل المنطقة الكردية شبه المستقلة في الشمال، والتي كانت قد نالت آنذاك الحماية الدولية بعد طرد الجيش العراقي من الكويت في حرب الخليج عام 1991 .
كانت هناك محاولات لإجراء تعداد سكاني بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 والذي أطاح بصدام حسين ، لكن الصراعات السياسية حول العديد من القضايا، وأبرزها التوتر بشأن الأراضي المتنازع عليها، فضلاً عن المخاوف الأمنية، ونقص الأموال وجائحة فيروس كورونا، أدت إلى تأجيلها عدة مرات.
خلال فترة التوقف، أجرى الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات ـ وهو وكالة الإحصاء التابعة للحكومة العراقية ـ تقديرات. ووفقاً لأرقامه، يبلغ عدد السكان نحو 43 مليون نسمة، استناداً في الأساس إلى معدل ولادة سنوي يتراوح بين 850 ألفاً ومليون نسمة سنوياً.
وقد كان إجراء التعداد السكاني من أولويات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عندما تولى منصبه في أكتوبر 2022. وسعت حكومة السيد السوداني إلى البناء على الاستقرار السياسي الحالي وتحسين الأمن في جميع أنحاء البلاد للدفع نحو الإصلاحات ومشاريع التنمية، وخاصة في الخدمات العامة.
وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهراء الهنداوي إن التعداد سيكون أول تعداد إلكتروني بالكامل وسيجمع ما لا يقل عن 120 ألف عامل مزودين بأجهزة لوحية. وسيتم الإعلان عن النتائج الأولية خلال 24 ساعة، في حين ستكون الأرقام النهائية متاحة بعد ذلك بثلاثة أشهر.
وأضاف الهنداوي أن المرحلة المقبلة ستشمل إحصاء العراقيين المقيمين خارج البلاد، وقال: “الذين يعيشون في الخارج لكن عائلاتهم ما زالت داخل العراق وبحوزتهم بطاقات هوية، سيتم إحصاؤهم، أما إذا كانت العائلة بأكملها تعيش في الخارج فعليها الانتظار حتى المرحلة التالية”، دون أن يكشف عن موعد بدء هذه المرحلة.
وأضاف الوزير أن استمارة التعداد تتضمن 70 سؤالا، تبدأ بالمعلومات الأساسية عن أفراد الأسرة وتنتقل إلى مواضيع مثل الصحة والتعليم والتوظيف والوضع الاقتصادي والإعاقات. وأضاف أن الأسر لن تسأل عن عرقها أو طائفتها بل عن دينها فقط.
كانت الأسئلة المتعلقة بالطائفة والعرقية تشكل عقبة رئيسية أمام إجراء التعداد السكاني منذ عام 2003. وقد توصلت الأحزاب السياسية الآن إلى اتفاق لاستبعاد هذه الموضوعات.
وكان جزء من هذا الاتفاق مع الأكراد، الذين كانوا على خلاف مع العرب وغيرهم من الأقليات حول الأراضي المتنازع عليها الممتدة من الحدود السورية إلى إيران والتي يزعم الأكراد أنها جزء من منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي، بما في ذلك مدينة كركوك الشمالية، وهي مركز نفطي رئيسي.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قرر مجلس الوزراء أن يكون القائمون على التعداد السكاني في المناطق المتنازع عليها في فرق مختلطة طائفيا وعرقيا، تتألف من أكراد وعرب وتركمان. وسوف ينضم ممثل مسيحي إلى الفرق في المناطق التي يهيمن عليها المسيحيون.
كما قال مجلس الوزراء إنه لابد من وجود تعاون بين السلطات الاتحادية والإقليمية، مما يسمح لكردستان بإرسال فريق فني إلى غرفة عمليات التعداد السكاني التابعة للحكومة المركزية في بغداد.
وأضاف الهنداوي أن من بين الأمور التي تزيد من تعقيد الأمر إدراج ملايين النازحين داخليا، والذين فر العديد منهم من منازلهم أثناء الحرب ضد داعش والصراعات اللاحقة.
وقال إن التعداد سوف يسجل أماكن إقامتهم السابقة والحالية، بهدف تلبية احتياجاتهم مع دمجهم في التخطيط الوطني.
ومع تصاعد التطرف بعد عام 2003، تعرضت الأقليات في العراق، وخاصة المسيحيين والإيزيديين، لعمليات قتل مستهدفة واختطاف، مما أجبر العديد منهم على الفرار من البلاد.
ولا توجد بيانات رسمية عن عدد المسيحيين ، لكن زعماء المجتمع يقدرون أن حوالي 300 ألف فقط هم من بين 1.5 مليون مسيحي قبل عام 2003.
عندما اجتاح تنظيم داعش مساحات واسعة من العراق في عام 2014، كان هناك ما يقدر بنحو 500 ألف يزيدي في البلاد. واستولى متعصبو داعش على بلدة سنجار، مسقط رأس أجدادهم، والقرى المحيطة بها، وأسروا الآلاف من الإيزيديين وذبحوا آخرين. ومنذ ذلك الحين، سعى العديد منهم إلى اللجوء إلى الخارج، وخاصة في أوروبا.
وقال سامان داود، وهو صحفي وناشط إيزيدي يعيش في ألمانيا: “أنا لست ضد التعداد السكاني، لكن حقوق وخصوصية الأقليات في العراق يجب الحفاظ عليها بطريقة تشمل أعدادهم [الحقيقية] داخل البلاد وخارجها”.
وأضاف داود أن جميع المناطق الإيزيدية في شمال العراق واجهت تغييراً ديموغرافياً منذ عام 2003، وكثير منها يطالب بها الأكراد، بما في ذلك بلدتي سنجار وشيخان.
وذكر داود “لقد شهدت مدينتي شيخان تغييراً ديموغرافياً بسبب هيمنة الأكراد في المنطقة، مما أدى إلى تحولها من منطقة إيزيدية نقية قديمة حيث كان 90 في المائة من السكان من الإيزيديين، إلى حوالي 30-40 في المائة الآن. ويمكنك أن تتخيل مدى التغيير الديموغرافي”.
وأضاف أن الخوف الأكبر هو أن يشمل التعداد النازحين الإيزيديين ضمن محافظة دهوك في المنطقة الكردية، حيث يعيشون في مخيمات، وليس ضمن محافظة نينوى، وهي خطوة من شأنها أن تؤثر إحصائيا على وجودهم في سنجار والمناطق المحيطة بها.
وقال داود إن “هذا يخلق شعورا بالخوف بين الإيزيديين، وسيكون لذلك تأثير كبير لأن أي تغيير في عددهم سيؤثر على وزنهم وعدد المقاعد داخل البرلمان”.
وطالبت الأحزاب المسيحية الكبرى أيضا بإجراء إحصاء للأقليات في الشتات “الذين فروا من الصراعات الطائفية والمذابح وإرهاب القاعدة في العراق وداعش”.
وأضافوا أنه “بخلاف ذلك فإن النتائج لن تعكس الكثافة السكانية الحقيقية للمكونات من المسيحيين والإيزيديين وغيرهم”.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=69199