“يوتوبيا” في مهب الريح: مشاكل ضخمة تهدد مستقبل ناطحة السحاب السعودية العملاقة

في قلب صحراء تبوك القاحلة، تتشكل واحدة من أكثر المشاريع العمرانية طموحًا وإثارة للجدل في القرن الحادي والعشرين: “ذا لاين” أو ما يُطلق عليها إعلاميًا “يوتوبيا السعودية”، ناطحة سحاب عملاقة مغطاة بالمرايا تمتد بطول 170 كيلومترًا، ضمن مشروع مدينة نيوم الخيالية. لكن هذا الحلم الملياري، الذي وُلد من رؤية ولي العهد محمد بن سلمان الطموحة لتحويل المملكة إلى قوة تكنولوجية وسياحية كبرى، يواجه اليوم سلسلة متزايدة من العراقيل البنيوية والمالية والتقنية.

 

مشروع يتحدى الواقع

منذ الإعلان عن المشروع عام 2021، قدمت السعودية “ذا لاين” للعالم كرمز لعصر جديد: مدينة خالية من الانبعاثات، بلا سيارات ولا طرق تقليدية، حيث تعيش ملايين من البشر في بيئة نظيفة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. تم إنفاق نحو 77 مليار دولار أسترالي حتى الآن، ويُتوقع أن تصل الكلفة النهائية للمشروع ومدينة نيوم الأوسع إلى 2.5 تريليون دولار أسترالي.

 

لكن هذه اليوتوبيا بدأت تتصدع تحت وطأة مشكلات عدة، أبرزها تراجع أسعار النفط العالمي، الذي لا يزال يمثل 61% من الميزانية السعودية، وارتفاع تكاليف البناء والعمالة، والجدل الأخلاقي والحقوقي حول ظروف العمل داخل المشروع.

 

أزمة تمويل غير مسبوقة

أدت أسعار النفط المنخفضة – المستقرة حول 70 دولارًا للبرميل – إلى أزمة تمويل خانقة أجبرت الحكومة السعودية على اعتماد ميزانية متقشفة. ووفقًا لتقرير حديث من غولدمان ساكس، تواجه المملكة عجزًا ماليًا يتعذر سده ما لم تصل أسعار النفط إلى مستويات تتجاوز 100 دولار للبرميل بشكل مستقر، وهو ما يبدو غير مرجح في ظل فائض الإمدادات العالمية، وخصوصًا من روسيا ودول أوبك+ غير المنضبطة بخفض الإنتاج.

 

وفي أبريل الماضي، اتهمت السعودية كلاً من العراق والإمارات بـ”الغش الإنتاجي”، وأعلنت بدورها زيادة إنتاجها النفطي، في خطوة زادت من الضغوط على الأسعار بدلاً من معالجتها.

 

مراجعة استراتيجية… متأخرة؟

وسط هذه الظروف، استُعين بالرئيس التنفيذي الجديد لمشروع نيوم، أيمن المديفر، لإجراء مراجعة استراتيجية شاملة للمشروع. وقد تم التعاقد مع عدد من كبرى شركات الاستشارات العالمية، بما فيها غولدمان ساكس وماكنزي وبوسطن كونسلتينغ، لاقتراح تعديلات جوهرية على التصميم والتنفيذ، تشمل تقليص طول المرحلة الأولى من المشروع، وخفض ارتفاع الجدران إلى 500 متر، والتخلي جزئيًا عن الواجهة العاكسة التي باتت تُعد عنصرًا عالي التكلفة.

 

لكن تبني هذه التوصيات من عدمه لا يزال رهن قرار سياسي، إذ يُنظر إلى “ذا لاين” كمشروع فخر شخصي لولي العهد، وبصمة رمزية لا تقل أهمية عن الجدوى الاقتصادية.

 

طموحات اصطدمت بالواقع

في الوقت الراهن، لا يتجاوز الجزء الجاري بناؤه من المشروع 2.5 كيلومتر فقط من أصل 170 كيلومترًا مخططًا. كما أُثيرت شكوك قوية بشأن القدرة على إتمام المرافق الرئيسية، مثل الملعب المركزي، في الوقت المناسب لاستضافة كأس العالم 2034.

 

ووفقًا لتقارير فايننشال تايمز، فإن مراجعة شاملة تجري حاليًا لتقليص نطاق المشروع ليكون أكثر واقعية، خاصة مع تضاؤل احتمالات إسكان 1.5 مليون نسمة بحلول عام 2030، وهو الهدف الأصلي المعلن عند إطلاق المشروع.

 

اتهامات متزايدة بشأن حقوق العمال

من جانب آخر، سلطت تقارير دولية الضوء على أوضاع العمال داخل المشروع. وأشارت مصادر إلى أن ما يصل إلى 21,000 عامل قد لقوا حتفهم منذ بداية أعمال الحفر والبناء، نتيجة ظروف العمل القاسية، وقلة إجراءات السلامة، وساعات العمل المفرطة في صحراء شديدة الحرارة. ورغم نفي السلطات السعودية لهذه الأرقام، فإنها تزيد من الانتقادات الحقوقية الموجهة إلى المشروع.

 

الحلم في مهب الريح

رغم تصريحات متفائلة من مسؤولي نيوم – مثل المدير التنفيذي للعمليات جايلز بندلتون الذي كتب على منصات التواصل أن “ذا لاين تتشكل بوتيرة مذهلة” – إلا أن الواقع على الأرض أكثر تعقيدًا بكثير.

 

فالمشروع الذي وُعد بأن يُدر دخلًا قدره 75 مليار دولار على السعودية ويوفر نحو 380,000 وظيفة تقنية بحلول 2030، يبدو اليوم في خطر التقلص، أو على الأقل التأجيل، في حال لم تتمكن المملكة من تأمين مصادر تمويل جديدة ومستدامة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.