تصاعدت حدة الانقسام داخل المؤسسة السياسية البريطانية، وتحديدًا في مجلس اللوردات، في أعقاب إعلان الحكومة نيتها تعديل القوانين بما يسمح للدول الأجنبية بامتلاك حصص في الصحف الوطنية البريطانية، وسط اتهامات بـ”التفريط” في حرية واستقلال الإعلام، واتهامات ضمنية لدولة الإمارات العربية المتحدة بمحاولة التسلل إلى المؤسسات الإعلامية البريطانية المؤثرة.
وجاءت ردود الأفعال بعد إعلان ليزا ناندي، وزيرة الثقافة، الأسبوع الماضي، أنها بصدد تعديل التشريعات الحالية للسماح بملكية أجنبية تصل إلى 15% في الصحف البريطانية، وهي نسبة أعلى بثلاث مرات من السقف الذي كانت حكومة المحافظين السابقة قد اقترحته قبل الانتخابات العامة الأخيرة، في أعقاب سعي شركة RedBird IMI – المدعومة بنسبة 75% من دولة الإمارات – للاستحواذ على صحيفة التلغراف.
وأثار هذا التحول في السياسة الحكومية موجة غضب داخل أوساط حزب المحافظين، خاصة بين أعضائه في مجلس اللوردات، حيث يقود اللورد فورسايث أوف دراملين – رئيس رابطة اللوردات المحافظين – تمردًا ضد التعديلات المقترحة، محذرًا من أنها تمثل “استسلامًا مقلقًا” أمام ضغوط جماعات الضغط، وتفتح الباب أمام أنظمة استبدادية لا تشارك بريطانيا قيمها الديمقراطية، بحسب وصفه.
وقال اللورد فورسايث في مقال نشرته صحيفة التلغراف: “السماح لحكومات أجنبية بامتلاك حصص في الصحف الوطنية يشكل تهديدًا منهجيًا للصحافة الحرة، وهي الركيزة الأساسية لأي مجتمع حر. نحن نفتح الباب لتدخلات أجنبية مموّلة من الدولة في إعلامنا، وهذا يقوّض استقلالية المؤسسات الصحفية ويُضعف ثقة الجمهور بها”.
وأضاف فورسايث أن مجرد الاعتقاد بأن امتلاك حصة بنسبة 15% لن يمنح تأثيرًا فعليًا هو “سذاجة مطلقة”، مشيرًا إلى أن مثل هذه الخطوات تأتي في وقت يتسم باضطراب جيوسياسي عالمي وتراجع في ثقة الجمهور بالإعلام.
في خطوة نادرة، أعلن فورسايث أنه سيؤيد “اقتراح قتل” للتشريع الجديد – وهي أداة برلمانية قلما تُستخدم وتهدف إلى تعطيل التعديلات بشكل مباشر – وقدمه اللوردات الليبراليون الديمقراطيون. ورغم أن هذا النوع من الاقتراحات لا يملك صلاحية حسم نهائي، إلا أنه يرسل إشارة سياسية قوية إلى الحكومة بشأن حجم المعارضة داخل الغرفة العليا.
وتتعلق هذه المعركة السياسية مباشرة بصفقة RedBird IMI للاستحواذ على التلغراف، وهي صفقة توقفت خلال العامين الماضيين بسبب اعتراضات سياسية وقانونية، وسط مخاوف من أن تمثل خطوة نحو توريط الصحافة البريطانية في مصالح حكومية أجنبية، لا سيما أن شركة RedBird IMI مموّلة من صندوق إماراتي سيادي، رغم كون RedBird Capital – الشريك الأميركي – تقود المحادثات من الناحية العملية.
ورغم أن الحكومة حاولت طمأنة المعارضين عبر تضمين واجب قانوني جديد يُلزم وزيرة الثقافة بحماية الاستقلال التحريري للصحف، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لتهدئة الغضب داخل مجلس اللوردات. وتصر ناندي على أن التعديل المقترح “معقول” ومصمم لحماية مصالح الإعلام الوطني، لكن شكوكًا لا تزال قائمة حول ما إذا كانت الوزارة قادرة فعلاً على منع التأثير السياسي أو الأيديولوجي في حال حصلت الإمارات على موطئ قدم في مؤسسة مثل التلغراف.
وفي السياق نفسه، قدمت البارونة ستويل أوف بيستون – رئيسة لجنة الاتصالات في مجلس اللوردات – اقتراحًا بديلًا أقل حدةً، وصفته بأنه “اقتراح أسف”، أعربت من خلاله عن خيبة أملها من رفع الحد القانوني للملكية إلى 15%، وكذلك من كون وزيرة الدولة ستكون الجهة الوحيدة المخولة بإطلاق تحقيق في حال الاشتباه بتدخل خارجي.
وقالت ستويل في بيان لها: “أنا قلقة من أي تهديد للمبدأ القائل بعدم تدخل الدول الأجنبية في صحافتنا المستقلة. ورغم أنني لن أدعم اقتراح قتل التشريع، إلا أنني أؤكد أنني سأتابع أداء الوزارة عن كثب، وسأحمّلها كامل المسؤولية في حال ثبت أي انتهاك لحرية الإعلام”.
وأشارت إلى أن من بين صلاحيات الوزيرة الجديدة التحقيق في أي نشاط مشبوه أو تدخل خارجي غير معلن، وقد تُجبر الإمارات على سحب استثماراتها في حال وجود دلائل على التدخل.
في المقابل، عبرت الحكومة عن تفاؤلها بإمكانية تمرير التشريع رغم المعارضة، مشيرة إلى أن الحد الجديد لا يمنح صلاحيات مباشرة للدول الأجنبية، وأن أي مساهمة تتجاوز ذلك ستخضع لرقابة صارمة من الهيئات الإعلامية والتنظيمية.
لكن الجدل يعكس في جوهره معضلة أعمق تواجه بريطانيا اليوم، وهي كيفية الموازنة بين جاذبية الاستثمار الأجنبي – لا سيما من دول الخليج الغنية – وبين الحاجة إلى حماية استقلالية الإعلام ومنع تسلل النفوذ السياسي الخارجي إليه.
ومن المتوقع أن يشهد مجلس اللوردات تصويتًا حاسمًا على التعديلات المقترحة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، في اختبار ليس فقط لشكل العلاقة بين الإعلام والدولة، بل لطبيعة الدور الذي تريد بريطانيا أن يلعبه رأس المال الأجنبي في مؤسساتها الديمقراطية. وبينما يصف البعض التعديلات بأنها “تحديث ضروري لقواعد قديمة”، يرى فيها آخرون مدخلًا لتآكل السيادة الإعلامية.
الرابط المختصر https://gulfnews24.net/?p=71683