الكويت والعودة إلى أسواق الدين: تحوّل في النموذج الاقتصادي أم استجابة اضطرارية؟

أعلنت وزارة المالية الكويتية عن خطط لاقتراض ما بين 3 إلى 6 مليارات دينار كويتي (ما يعادل 10 إلى 20 مليار دولار أمريكي تقريباً) خلال السنة المالية 2025/2026، في خطوة تمثل عودة البلاد إلى أسواق الدين المحلية والعالمية بعد توقف دام ثماني سنوات.

هذه العودة، التي تأتي بموجب قانون الدين العام الجديد، أثارت تساؤلات بشأن دوافعها، دلالاتها، وتبعاتها على المدى المتوسط والبعيد.

ما وراء القانون: إعادة تعريف للدور المالي للدولة

يتيح القانون الجديد للحكومة الكويتية اقتراض ما يصل إلى 30 مليار دينار على آجال استحقاق تصل إلى 50 عاماً، في إطار محاولة لإعادة هيكلة السياسة المالية وتحقيق استدامة في تمويل مشاريع التنمية.

ووفق ما صرحت به وكيل وزارة المالية، أسيل المنيفي، فإن الهدف هو ليس فقط تمويل المشاريع، بل تعزيز احتياطيات الدولة، وتحسين التصنيف الائتماني، وتخفيض كلفة الاقتراض على المدى الطويل.

لكن هذه الأهداف تعكس في جوهرها تحوّلاً في الدور الذي تلعبه الدولة في الاقتصاد الكويتي. فلطالما كانت الكويت من الدول الخليجية القليلة التي استطاعت تمويل خططها من الفوائض النفطية دون الحاجة إلى الاقتراض.

اليوم، ومع تآكل هذه الفوائض بسبب ارتفاع الإنفاق العام وضعف تنويع مصادر الدخل، تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى تفعيل أدوات تمويل لم تكن مألوفة في السياسة الاقتصادية الكويتية خلال العقود الماضية.

مشاريع تنموية أم محاولة لتسكين العجز؟

بحسب ما جاء في تصريحات وزارة المالية، فإن الأموال المستدانة ستُوجَّه نحو تمويل مشاريع تنموية في قطاعات البنية التحتية، المدن الذكية، التعليم، الصحة، والطاقة.

هذه المجالات تعد جزءاً من الخطط الخمسية التي تهدف إلى تحديث البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة وتقليل الاعتماد على النفط.

لكن في المقابل، يُثار تساؤل جوهري حول مدى واقعية هذه المشاريع، ومدى قدرة الجهاز التنفيذي على تنفيذها بكفاءة، في ظل ضعف الأداء المؤسسي، وطول الدورة البيروقراطية، وغياب رؤية اقتصادية متماسكة.

كما أن تجربة الكويت السابقة في تنفيذ المشاريع الكبرى لم تكن مشجعة من حيث الانضباط المالي أو الجداول الزمنية.

الاقتصاد السياسي للاقتراض: توافق نادر أم مناورة محسوبة؟

اللافت أن هذا القرار يأتي في لحظة تبدو فيها العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في حالة توافق نادرة، بعد سنوات من التوترات التي عطلت قانون الدين العام منذ 2017.

وتمرير القانون في هذا التوقيت قد يشير إلى صفقة سياسية ضمنية: تمنح الحكومة مرونة مالية مقابل الالتزام بتنفيذ المشاريع التي تُرضي القواعد الانتخابية للنواب.

إلا أن هذه “الهدنة” لا تعني بالضرورة استقراراً دائماً. فالنقاش حول الدين العام لا يزال محاطاً بحساسيات سياسية وشعبوية، خصوصاً في مجتمع اعتاد على دولة رفاه سخية، ويخشى أن يكون الاقتراض مقدمة لتقليص الدعم أو فرض ضرائب مستقبلاً.

هل يكفي الاقتراض لتجاوز الأزمة البنيوية؟

الاقتراض بحد ذاته ليس مؤشراً سلبياً إذا ما تم توجيهه نحو إنتاجية اقتصادية حقيقية. لكن ما تواجهه الكويت لا يقتصر على فجوة تمويلية يمكن سدّها بالقروض، بل أزمة هيكلية أعمق تتعلق بنموذج اقتصادي ريعي يعتمد على النفط من جهة، وعلى الإنفاق العام والوظائف الحكومية من جهة أخرى.

وفي غياب إصلاحات ضريبية أو تشريعات جريئة لتنويع الاقتصاد، يبقى القرض مجرد “مسكن” لا يعالج أصل المشكلة. كما أن الاعتماد على الدين لتمويل الإنفاق الرأسمالي، من دون ربطه ببرامج لرفع الإيرادات غير النفطية، قد يزيد من هشاشة الوضع المالي على المدى الطويل.

هل الأسواق جاهزة لتمويل الكويت؟

فيما يتعلق بالأسواق العالمية، تراهن الكويت على تصنيفها الائتماني الجيد، واحتياطياتها السيادية الضخمة، لجذب مستثمرين بشروط تمويلية ميسرة. لكن هذه الأسواق لا تنظر فقط إلى الأرقام، بل إلى استقرار البيئة السياسية والقدرة التنفيذية للدولة.

وفي هذا السياق، فإن غياب الشفافية في المشاريع الكبرى، والتقلبات المتكررة في المشهد السياسي، قد ترفع كلفة الاقتراض أو تقلل من جاذبية الإصدار.

أما على الصعيد المحلي، فإن تطوير سوق الدين الداخلي يُعد تحدياً لا يقل صعوبة. إذ يحتاج إلى أدوات مالية أكثر تطوراً، وثقة أكبر من المستثمرين المحليين، وشفافية في إدارة العوائد والاستخدامات.

 

هل الكويت على أعتاب تحول حقيقي؟

قرار العودة إلى الاقتراض قد يكون لحظة فارقة في تاريخ المالية العامة الكويتية. لكنه أيضاً اختبار لقدرة الدولة على إدارة الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة.

والنجاح في هذا الاختبار يتوقف على ما هو أبعد من القوانين: يتطلب إرادة سياسية للإصلاح، كفاءة في التنفيذ، وشفافية في المحاسبة.

وإلى حين تحقق هذه الشروط، يبقى السؤال مفتوحاً: هل نحن أمام ولادة نموذج اقتصادي جديد في الكويت، أم مجرد تمديد لعمر النموذج القديم بأدوات جديدة؟.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.